إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه فهو عبد طعم الإيمان وحلاوته)]، ثلاث من كن فيه أي: من توفرت فيه هذه الخصال الثلاث فقد حقق العبودية لله عز وجل، وقد ذاق طعم الإيمان، فشبه الإيمان بالشيء الحلو الذي يتذوق من طَعِمَه.
قال: [فقال: قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم]، يعني: الراوي عن أنس يسأله هذا السؤال يقول: هل أنت سمعت هذا من النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) أي: أن يكون الله ورسوله من جهة الاعتقاد والعلم والعمل والمحبة والرضا وغير ذلك من شعب الإيمان القلبية والعملية، قال: [(وأن يحب في الله ويبغض في الله)] لأن أعظم عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
قال: [(وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها ولا يشرك به شيئاً)]، يعني: لو أن ناراً عظيمة أججت في أخدود عظيم جداً وألقي فيها المرء كان ذلك أحب إليه من أن يقع في الشرك بالله عز وجل، هذه الثلاثة الأشياء لو اجتمعت في قلب العبد المؤمن وجرت مقتضياتها على جوارحه فإنه يكون قد حقق الإيمان الكامل التام، وذاق طعم الإيمان.
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله عز وجل وعاد في الله، فإنه لا تنال ولاية الله عز وجل إلا بذلك].
فإن تحب في الله، وتبغض في الله، وتعطي لله، وتمنع لله، كل ذلك لا يمكن للعبد المؤمن أن يفعله إلا لله عز وجل، ولو فعله لنفسه أو نصرة أو غضباً لنفسه أو حمية أو غير ذلك من النيات والأغراض والمقاصد الأخرى فإنها ليست لله عز وجل، وإنما هي انتقام أو انتصار لنفسه؛ ولذلك لو أن العبد منع العطية لوجه الله عز وجل، أو أعطى العطية لوجه الله عز وجل، أو خاصم هذا في الله، أو صالح هذا في الله، فهذا العبد قد ضبط نفسه وسلوكه وعمله على أن تكون كلها لله عز وجل.
أنت تخاصم أخاك الفلاني؛ لأنه قد عصى الله عز وجل، وعلمت من واقع حاله أنه لا يصلح إلا بالهجر، فتهجره في الله عز وجل، كما هجر الصحابة رضي الله عنهم الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وصار الواحد منهم لا يدري أين يذهب.
كان لـ كعب -وهو أحد الثلاثة- جار وقريب له، وكان يصعد الجدار ويسلم على جاره، ولكن هذا الجار ما كان يرد عليه السلام -مع أن رد السلام واجب- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقاطعوا هؤلاء الثلاثة، فكان الواحد منهم يمشي في شوارع المدينة حائراً لا يدري ماذا يفعل، ضاقت عليه الأرض، الوفاة خير له من الحياة من فرط ما ضاقت به أموره وأحواله؛ لأنه تخلف عن الجهاد بغير عذر، فلما نزلت توبتهم من السماء فرح هذا الجار فرحاً عظيماً جداً، وأسرع بمجرد سماع الآيات إلى كعب يبشره بأن الله تعالى قد تاب عليه، فلو كان هذا خصاماً للذات أو لخلاف وقع بين الجيران أو غير ذلك لا يهمه أن تنزل فيه توبة، وكذا الصحابة لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكلموهم، فامتنع الصحابة جميعاً عن محادثة القوم، فلما نزلت التوبة فرح الصحابة، وليس الثلاثة فحسب، فهذا المنع من محادثة القوم كان لله عز وجل، وهذا المنع قد بلغ خمسين يوماً، فتصور أن امرأة لا تكلمه، وأن ولداً لا يكلمه، وأن جاراً لا يكلمه، وأن صديقاً لا يكلمه، وأن تاجراً لا يكلمه، المدينة كلها امتنعت عن محادثة القوم، حتى أهل بيت الثلاثة لم يكونوا يكلمون هؤلاء الثلاثة قط، فتصور رجلاً يعيش وحده في مجتمع يعج بالأفراد شرقاً وغرباً، لا يتكلم أحد منهم معه، فماذا يكون حاله؟ يكلم نفسه، أو يتكلم هؤلاء الثلاثة، مع أنهم قد كره بعضهم بعضاً في هذه المدة؛ لأنهم شعروا باتحاد المعصية بينهم، فكره الواحد منهم أن يكلم أخاه؛ ولذلك لما جاءت لـ كعب رسالة من أمير من أمراء الكفر أن ائتنا نولك ما رغبت يعني: ائت إلينا وسنوليك ونعطيك من المال ما ترغب فيه، قال: هذه ثالثة الأثافي، هذا ابتلاء واختبار، ثم قال: لا والله إن محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه أحب إلي من الدنيا وما فيها، فالإيمان لا يزال متمكناً في قلوبهم، لكنها غفلة انتهزها الشيطان فخلفهم عن الجهاد.
الشاهد من هذا كله أن الصحابة امتنعوا حيث أمروا بالامتناع عن المحادثة، وفرحوا أشد الفرح حيث كان الأمر يستوجب الفرح، فهم فرحوا لله، وامتنعوا لله عز وجل، وهذا من فرط وكمال وتمام إيمان الصحابة رضي الله عنهم.
قال: [ولن تجد طعم ا