قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على هذه الفطرة)].
وهي فطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله عز وجل على العباد لما أخرجهم كالذر من صلب أبيهم آدم وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172].
قال: [(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)] أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم: (ويشركانه أو ويشرِّكانه).
أي: يجعلانه مشركاً.
[(كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)].
يعني: لو أن البهيمة التي اجتمع جميع أعضائها لا عيب فيها ولا نقص فهي جمعاء؛ والجمعاء تلد جمعاء، ولذلك لما أخذ الله تعالى الميثاق الأول على ذرية آدم فلاشك أن كل واحد منهم يولد على هذه الفطرة الأولى، ولكن التغيير والتبديل إنما يطرأ عليه بسبب التربية، وبسبب المجتمعات التي يتربى فيها، وبسبب عوامل أخرى خارجية، أما أصل خلقه فإنه يخلق وقد اجتمعت فيه خصال الخير وفطرة الإسلام.
قال: [ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]].
(فِطْرَةَ اللَّهِ) أي: سنة الله التي خلق الناس عليها أولاً وهي: التوحيد.
[قال الأوزاعي: وذلك بقضاء وقدر].
يعني: هذا التبديل وهذا التنصير والتهويد والإشراك إنما كله بقضاء وقدر.
وقال الأوزاعي: [لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون].
لأنه في الحديث: (يولد المولود على الفطرة، فأبواه يهودانه).
يعني: ربنا يعلم أن الأبوين سيهودان المولود، فالله يعلم ذلك، وبتهويدهما لولدهما لم يخرجا هذا الولد من علم الله، وإنما الله تعالى علم ذلك أزلاً، ولذلك قال الأوزاعي لا يخرجانه -أي: الأبوين- يخرجانه من علم الله؛ لأن الله علم أزلاً أن أبويه سيهودانه، وأنه إذا عقل التهويد وخالف فطرته التي فطره الله عليها كتبه عليه.
قال: لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما ينتجون بالبهيمة بهيمة، فهل ترون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟)].
يعني: البهيمة تولد كاملة الأعضاء، ولكن يتدخل صاحبها بقطع جزء منها، ووسمها في أذنها أو وجهها، وغير ذلك من التشوهات والتغيير والتبديل الذي يطرأ عليها، فإنما ذلك يكون بتدخل صاحبها [(قالوا: يا رسول الله، أفرأيت وهو يموت وهو صغير؟)] يعني: أفرأيت إن مات هذا الغلام وهو صغير فما حكمه؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)].
قيمة هذا الكلام: أن كل شيء بعلم الله السابق في الأزل، ولو نفترض فرضاً: لو أن الطفل الصغير وهو من أبناء المشركين مات في صغره فالله عز وجل أعلم بما لو كان عاش وبلغ ماذا سيكون، يعلم ذلك، ولذلك الجواب هنا يقول: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)]، أي: لو عاشوا وبلغوا مبلغ الرجال، فالله عز وجل يعلم ماذا كانوا يصنعون، وما سيصيرون إليه شقاء أم سعادة، هداية أم ضلال، يقبلون الهدى أو يقبلون الضلال، يعلم ذلك منهم، ولذلك أوكل النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم إلى الله عز وجل؛ لأنه العليم سبحانه وتعالى.
قال: [عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفوراً)].
وهذا الحديث فيه ضعف إلا أنه يشهد له بقية الأدلة.
قال: [عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث: - (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) - فقال مالك: احتج عليهم بآخره].
أهل القدر يقولون: الغلام لا علاقة له بالتهويد ولا التنصير ولا المجوسية، لأن هذا فرض عليه فرضاً من قبل أبويه، أو أن الغلام ينشأ مؤمناً في بيت مؤمن لا يختار هذا الإيمان، فيكون الإيمان وكذلك الشقاء واختيار ما يضاد أحدهما قصد للعبد به؛ لأنه إما أن يخلق مؤمناً على فطرته الأولى في بيت مؤمن فهو لا يكون بذلك قد اختار الإيمان، وإما أن يفرض عليه التبديل والتغيير عن طريق والديه وهو صغير وبالتالي لا علاقة له بهذا.
فقالوا لـ مالك: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث؟ قال مالك: احتج عليهم بآخره.
إذا كانوا يعتمدون صدر الحديث وأوله، وأن الشقاء ليس للعبد فيه دخل وأن ذلك جبر عليه وقهر بدون اختيار له، فاحتج عليهم بآخر الحديث: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
وعمل العبد بعد بلو