والشيخ ابن عثيمين قال في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً جميلاً يبين فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه وهو يثني على ربه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك).
ظاهر النص: أن الشر غير مقدر لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لم يأذن فيه، والكلام هذا مردود عليه، قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وإذنه في وقوع الأشياء، وأما المقدور فهو اسم مفعول بمعنى فاعل؛ لأن المفعول والمقدور هو الفعل الذي يأتيه العبد، فالقتل فعل العبد، ولكنه وقع بقدر الله، ومقدور لله، بمعنى أنه مخلوق لله عز وجل، ولكن هو شر.
قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في الحديث، وكما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70].
أي: أن الله كتب كل ما كان، وما يكون في السماوات والأرضين {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
وقوله: (نؤمن بالقدر خيره وشره)، أما وصف القدر بالخير فلا إشكال فيه، أي: أن الطاعات كلها وقعت بقدر الله، وأما وصف القدر بالشر فالمراد به شر المقدور لا شر القدر؛ لأن القدر هو فعل الله عز وجل، وأما المقدور هو فعل العبد الذي أذن الله في وقوعه.
أي: أن فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، فكل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته التي وقعت بكسب العبد وبقدر الله عز وجل.
فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، وأما باعتبار الفعل فلا؛ لأن الفعل هو فعل الله عز وجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك).
أي ليس إليك من جهة المقدور، وإنما هو من جهة القدر فقط، ففي المخلوقات المقدورات شر، ففيها الحيات والعقارب والسباع، والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، فأنت حينما ترى ثعباناً فإنه شر؛ لأنك لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور، والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، أي باعتبار أن الله تعالى أذن في وقوعها، وقدرها أن تقع في الكون فهي خير؛ لأن الشر المحض لا يُنسب إلى الله عز وجل.
قال: لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن نعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات التي يأتيها العبد، لا باعتبار التقدير الذي قدره الله عز وجل وفعله.
ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، كما قال تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ))، وهذا الفساد بقدر، وهو من أفعال العباد؛ لأنه فساد، والله تعالى يُنسب إليه الشر على جهة القدر لا على جهة المقدور.
قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] أي: أن الفساد حينما يظهر على أيديهم يُعذّبهم المولى عز وجل؛ لعلهم يستيقظوا بعد هذا، وإذا استيقظوا رجعوا إلى الله، وتابوا وأنابوا إليه.
إذاً: فهذا هو وجه الفساد الذي فيه خير، وبما أن النتيجة طيبة فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً.
فمثلاً حد الزاني، إذا كان الزاني غير محصن - أي: غير متزوج - فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرب عاماً، وهذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، كما لو ربطنا شخصاً في الصحراء وضربناه، فهذا بالنسبه له شر.
لكن لو أن العقوبة هذه تمت في التلفزيون على الهواء مباشرة، والأمة كلها تفرجت عليه، فإنه لا يتصور أن واحداً يفكر في الجريمة مرة أخرى، ولو فكر فيها فإنه سيراجع نفسه مليون مرة.
إذاً: فهذا بالرغم من أنه بالنسبة له هو شر، إلا أن فيه خيراً عظيماً لمجموع الأمة، بل وفيه خير له أيضاً، لأنه لن يفكر فيها مرة أخرى.
إذاً: فالفساد هذا في طياته خير، فنسبته إلى الله عز وجل من هذه الحيثية نسبة مشروعة، ولذلك يقولون: إن الفساد والشر والمعاصي تقع في الأرض بقدر الله عز وجل؛ لحكمة علمها الله عز وجل، أو علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وأما بالنسبة للأمور الكونية القدرية فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً كالمرض، فالإنسان إذا مرض فلا شك أن المرض بالنسبة له شر، لكن فيه خير بالنسبة للواقع، وخيره تكفير الذنوب، فالمرض من هذه الحيثية خير وإن بدا لك أنه شر، ورغم أنه شر لكنه وقع بإذن الله.
فالذي لا بد أن نعلمه جميعاً أن الخير والشر بقدر الله عز وجل، وفي الدرس الماضي تحدثنا أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأذن في بقائه وحياته إلى قيام الساعة، وعلم ما سيكون عليه إبليس، ومع هذا خلقه لحكمة عظ