وشيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله له كتاب ممتع جداً اسمه: إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، وقد عقد فيه فصولاً متعددة على طول الكتاب وعرضه يتكلم فيها عن كيفية محاربة العبد للشيطان، واعتبر أن الأعداء الذين يعادون ابن آدم إنما هما النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، ومعظم الضلال إنما يأتي منهما، فعقد فصولاً متعددة في أبواب شتى وهو يتكلم وينصح العباد كيف يتعاملون مع الشيطان إذا وسوس لهم في أي باب من الأبواب، فقد يمكن أن يوسوس في باب الوضوء، أو في باب الصلاة، أو في باب الصيام، أو في باب الزكاة، أو في باب الحج، وأعظم أبواب الإغواء والوسوسة إنما هي في الإيمان؛ لأن الوسوسة في هذه الحالة إنما هي في ذات الله تبارك وتعالى.
ولا شك أن الوسوسة كلها مذمومة وغير محمودة، وممقوتة لدى أهل العلم وفي الشرع، لكن بعضها أعظم من بعض، فلا يتصور التساوي بين عبد دخل الشيطان له في باب الوضوء ووسوس له، فبدلاً من أن يغسل العضو ثلاث مرات يغسله ثلاثين مرة، وبدلاً من أن يتوضأ بالمد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، ويغتسل بالصاع فإنه يتوضأ ببرميل أو برميلين، وبعد هذا كله لا يرى أنه أحسن الوضوء، وهو حقيقة لم يحسن، بل قد أساء الوضوء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً وثلاثاً، وتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وثلاثاً وقال: (من زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم).
فقوله: (من زاد عن هذا) أي: من زاد عن الغسلات الثلاث لكل عضو (فقد أساء وتعدى وظلم).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد -أي: بملء الكفين- ويغتسل بالصاع -وهو أربعة أمداد-، فقال رجل ممن سمعه: إنك لتراني عظيم البدن مشعراً، فلا يكفيني المد، بل لا يكفيني الصاع في الاستنجاء، فغضب جابر رضي الله عنه وقال: قد كان يكفي من هو أعظم منك وأشعر)، يريد أن يقول له: إن الذي أنت عليه وسوسة، ولو أن الإيمان تام كامل عندك لما قلت هذا، وإن كانت هذه بلية فاحتفظ بها كما احتفظ بها الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: (يتعاظم أحدنا أن يتكلم به).
فعند أن تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وأنت تصب برميلاً؛ فاعلم أن هذه بلية، وحاول أن تعالجها، لكن إياك أن تجعل هذا الأمر حجة، فيلقيها الشيطان على قلبك.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن القيم عن ابن قدامة المقدسي كيفية العلاج من الوسوسة.
فقال: فمن أراد التخلص من هذه البلية -التي هي الوسوسة- فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه عليه الصلاة والسلام على الصراط المستقيم، وأن ما خالف هديه في قوله وفعله إنما هو من تسويل إبليس ووسوسته.
ويوقن العبد أنه -أي: الشيطان- عدو له، وأن النجاة من هذا العداء في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الشيطان لا يدعوه إلى خير قط: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائناً ما كان، فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم، ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته، وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته، ويقول لنفسه: ألستِ تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم؟ فإذا قالت له: بلى، قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: لا، فيقول لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعتِ سبيله كنت قرينه -أي: كنتِ قرينة له- وستقولين: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.