استدلال المعتزلة بقوله: (لا تدركه الأبصار)

وأما الآية الثانية التي يتمسك بها نفاة الرؤية لله عز وجل فهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فقد يقول لك قائل: أنت تعتقد أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة؟ فتقول له: نعم، وفي الجنة.

فيرد عليك قائلاً: والآية التي تقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فهل ستقول: أنا رجعت عن كلامي ورأيي! لأدنى شبهة تلقى عليك، ولذلك فدروس العقيدة هي من أهم ما يمكن أن يحرص عليه المرء، وهذه شبهة يقول بها المعتزلة والجهمية والخوارج، وهي في الحقيقة حجة لأهل السنة في إثبات الرؤية مع أن ظاهرها يدل على نفي الرؤية، لكن أهل السنة استنبطوا منها أنها تثبت الرؤية، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية لا العدمية أو السلبية، فالله تبارك وتعالى يمدح نفسه دائماً بصفة المدح، ولا يمكن أن يكون هناك مدح إلا من جهة الثبوت لا من جهة السلب، وقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فالسنة والنوم صفات نقص لا يمكن أن يمدح الله تبارك وتعالى نفسه بها، لكن فهمنا منها المدح بإثبات النقيض والضد، فمدح الله عز وجل نفسه بإثبات كمال الحياة والقيومية.

إذاً فهو لم يتمدح بصفات النقص، وإنما مدح نفسه بما ينقض ويناقض ويناهز هذه الصفات، وهي إثبات الحياة والقيومية لله عز وجل، وهما صفتان معارضتان للسنة والنوم، ولذا نقول: إن الصفات العدمية أو السلبية لا مدح فيها، وإنما المدح في الصفات الوجودية الإيجابية، فيمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمر وجودياً، فأنت إذا نفيت عنه السنة والنوم فلا بد أن تثبت له الصفة المناقضة، وهي الحياة والقيومية.

إذاً فربنا تبارك وتعالى يمدح نفسه بشيء موجود، كمدحه نفسه بنفي السنة والنوم المتضمن لكمال القومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء -التعب والمشقة- لإثبات كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن لكمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن لكمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل والعلم والغنى، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه -أي: غيابه- المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.

وربنا سبحانه وتعالى لم ينف عن نفسه شيئاً ليس له أمر ثبوتي وجودي في المقابل، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه.

فالمعنى إذاً: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فأهل السنة يقولون: إن قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) ليس نفياً للرؤية، وإنما هو نفي للإدراك والإحاطة، فأنت نفسك ممكن ترى مخلوقاً فضلاً عن الله عز وجل، لكنك لا تحيط به ولا تدركه، ولذلك لما قال قوم موسى لما فروا من فرعون وتبعهم فرعون وجنوده: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال موسى: {قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62]، فنفي موسى الإدراك، مع أن موسى وقومه كانوا يرون فرعون وجنوده، وموسى عليه السلام لما قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لم يقل: لم يرونا أو لن يرونا، وإنما قال: (كلا)، فالجواب هذا متعلق بكلام قوم موسى في الإدراك، أي: لن يدركنا فرعون، وقول موسى ونفيه الإدراك لا ينفي أن فرعون وقومه كانوا ينظرون ويرون موسى ومن معه، إذاً فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، وهذا في حق المخلوق.

ولو أنك رأيت جبريل على صورته التي خلقه الله عز وجل عليها له (600) جناح، كل جناح يسد الأفق، فكيف ستحيط بجبريل وهو مخلوق؟! إنك لن تستطيع أن تحيط به، مع أنه مخلوق من مخلوقات الله.

وأيضاً: لو أنك وقفت أمامي وجهاً لوجه، ونظرت إليك ونظرت إلي، فهل سيحيط كل منا بصاحبه؟ لا؛ لأني إذا رأيت وجهك خفي علي ظهرك، وإذا رأيت ظهرك خفي علي وجهك، إذاً أنا أراك ولكني لا أدركك، فإذا كان هذا في المخلوق الإنسان الضعيف فكيف بالله عز وجل؟! إذاً فقوله (لا تدركه الأبصار) ليس نفياً للرؤية بقدر ما هو نفي للإدراك والإحاطة؛ ولذلك يقول الله عز وجل {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] أي: لا يمكن أبداً أن تقع منك الإحاطة بالله عز وجل؛ لأنه منزه عن ذلك؛ لإثبات كمال وحدانيته.

فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، فإذا كنت لا تدرك أنت الشيء الصغير المخلوق فالله تبارك وتعالى من باب أولى، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، إذ الإدراك أعم من الرؤية، والرؤية أخف، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62]، فلم ينف موسى عليه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015