يقول الإمام الطحاوي عليه رحمة الله: والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وتفسيره -أي: تفسير الرؤية- على ما أراد الله تعالى وعلم، وما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، ولا ندخل بذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم أحد في دينه إلا من سلم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه.
والمخالف في إثبات الرؤية -أي: رؤية الناس لله عز وجل- من الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية على جهة الخصوص، قولهم باطل مردود في الكتاب والسنة؛ لأن مسألة الرؤية ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع.
وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كـ أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة وحماد وغيرهم من أئمة الدين، وأهل الحديث عامة، وسائر طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، فكلهم أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة في الجنة.
وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي تتعلق بالاعتقاد وأصول الدين لا بفروعه، بل هي الغاية التي شمر إليها المشمرون؛ ولذلك قيل للشافعي: ماذا تقول في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]؟ قال: تغشاهم نضرة بسبب نظرهم إلى الله عز وجل، فإنهم يلتمسون من نوره، وكل مسلم إنما تظهر على وجهه علامات الرضا وعلامات السخط نظراً لما يطلب.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها).
قال أحمد بن حنبل: (نضر الله امرأً) أي: جعل في وجهه النضرة، وهي البشر والسرور والفرح، فترى وجهه نير وإن كان أسود أو أسمر؛ لأنه استمد هذه النضرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: ما رأيت عالماً من علماء الحديث إلا وقد عرفته، قيل له: كيف؟ قال: بالنضرة التي في وجهه، أي: بالبشر والفرح والسرور، والنور الذي يشع من وجهه بسبب طلبه لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا تأويل لقوله: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها).
وهذا يدل على أن من سمع ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، أو تذاكره، أو درسه، أو اهتم، أو بثه في الخلق علماً وعملاً فإنه يحظى بهذا الوعد العظيم الذي وعد به النبي عليه الصلاة والسلام، وهي تحقيق النضرة في وجهه.
وقال محمد بن إدريس الشافعي في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]: تغشاهم نضرة في وجوههم بسبب نضرهم لله تبارك وتعالى، قيل له: أأنت تقول بذلك؟ أي: أهذا معتقدك؟ قال: والله لو لم يكن ذلك لما عبد محمد بن إدريس ربه.
أي: لولا أني أعتقد أني ألقى الله عز وجل يوم القيامة، وأنظر إليه فما فائدة عبادتي الآن؟ أي: إذا لم أكن على يقين من أنني سأتزود بنور الله عز وجل يوم القيامة، وأتنعم وأتلذذ بالنظر إلى وجه الله تعالى، فإذا كنت أشك في ذلك فلم أعبد ربي إذاً؟! وهذا يدل على أن المرء يعبد ربه طمعاً في جنته، وطمعاً في التلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.
قال: وهذه مسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون.