أخذ المتأوله ما نقل عن ابن عباس من تأويل لهذه الآية فطاروا به كل مطار، وإذا كانوا يريدون أن يأخذوا بكلمة ابن عباس هنا، فيلزمهم أن يأخذوا بكلام ابن عباس في كل الصفات، وهذا هو منهج ابن عباس، بل إن أقصى ما يمكن أن يدافع به عن ابن عباس: أن ابن عباس لم يكن عنده علم بالحديث، فحمل الساق على المحمل اللغوي، ولو كان عنده علم بالحديث ما قال هذا قط.
والحق أن تفسير ابن عباس للساق الذي ورد في الآية الكريمة ليس من تأويل الأشاعرة؛ لأنه ليس منهج ابن عباس، بل هو رأي رآه، وهذا على فرض ثبوت هذا التأويل عنه، وهو غير ثابت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الذي أقوله الآن وأكتبه، وإن كنت لم أكتبه في ما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس -هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات ليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.
وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]-أي: يريد أن يقول: إن هذا ليس كلام الصحابة، بل لم يختلفوا إلا في تفسير هذه الصفة- فروي عن ابن عباس -صيغة التمريض- وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة.
وعن أبي سعيد وطائفة: عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين.
اهـ.
وقال ابن القيم: و (الصحابة متنازعون في تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع) اهـ.
لكن هنا جملة أمور وحقائق لا يجوز لأحد أن يتعداها، أو أن يغض نظره عنها، وهي أن الخلاف وقع بين الصحابة إلا أنه في هذه الصفة فقط؛ لأن التأويل ليس مذهبهم بتأويل الساق بالشدة.
وابن القيم يريد أن ينصحنا بنصائح، وكأنه يقول: رغم وقوع النزاع في هذه الصفة إلا أن هناك عدة نصائح أريد أن أنصحكم بها، وهي: أن تفسير بعض التابعين أو ابن عباس من الصحابة -على فرض صحته عنهم- لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بالشدة في الآخرة ليس من التأويل الذي فيه صرف للآية عن ظاهرها.
أي: أنه ليس تأويل الأشاعرة، ولا فيه تعطيل لصفة من صفات الله جل وعلا، بل إنهم يثبتون هذه الصفة بالأحاديث الأخرى الصحيحة، فشتان بين قولهم وبين تعطيل وتأويل الأشاعرة.
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات.
أي: أنه يريد أن يقول: إن الآية ليست صريحة في إثبات أن أن الساق صفة لله عز وجل، وإنما أتى التصريح في الحديث.
ثم قال: ولا ريب -أي: ولا شك- أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل (عن ساقه)، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنها من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إذ إن التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، لكن كثيراً من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً له، كاليد على القدرة والنعمة، والعين على الإحاطة والرعاية، ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلاً، وهذا خطأ من وجهين.
وقد سبقه أبو يعلى الفراء فحمل تأويل ابن عباس على قول أهل اللغة، وليس على التأويل الفاسد الذي هو مذهب الأشاعرة.
وأما ما روي عن ابن عباس في تأويل الساق فقد خالفه ابن مسعود، ولا أقل من أن يقال: إن الصحابة اختلفوا في هذه، وليس قول أحدهم بحجة على قول الآخر إلا بدليل أو بنص، والنص مع ابن مسعود لا مع ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما، وعليه فلا إشكال إذاً.
وأظن بذلك الكفاية والغنية، وقد اتضح أن لله تبارك وتعالى ساقاً ليست كساق المخلوق، وأنها ساق حقيقية لله عز وجل يتعرف بها إلى خلقه في الموقف، وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد أخطأ في صرف هذه الصفة إلى المعنى اللغوي، وهذا إن صح عنه ذلك، وإن لم يصح فقد أغنانا ضعف الإسناد إليه عن نسبة التأويل له رضي