الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق لم يكن متعذراً في حق الخالق؛ للكلام الذي قلناه في الدرس الماضي: أن نظام الأقيسة والجاذبية الأرضية التي يتعامل بها الناس في حياتهم لا يمكن أن تنطبق على الله، ولا أن يخضع لها المولى عز وجل؛ لأنها مقاييس ضعيفة وهزيلة تتناسب مع ضعفنا.
أما المولى تبارك وتعالى القوي الواحد المتفرد الصمد الذي تلجأ إليه جميع المخلوقات، ولا يلجأ هو لأحد، هو الغني عن الخلق، والخلق كلهم فقراء، غنيهم وفقيرهم فقير إلى الله تبارك وتعالى، فإذا كان اجتماع المعية والعلو والارتفاع في حق المخلوقين مستحيل، أو غير ممكن، فإنه ممكن في حق المولى تبارك وتعالى؛ لأن البشر تحكمهم المقاييس، هذه المقاييس والمعايير لا يمكن أن تحكم على الصفات الإلهية؛ لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين في ضوء التباين بين الخالق والخلق.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول في السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل)، يعني: أنت معي في سفري، وأنت معي في أهلي، وأنت خليفتي في أهلي، يعني: أنا يا رب! قد استخلفتك على أهلي أن تحفظهم وترعاهم، وهذا الفهم الذي في عقولنا إنما يتناسب مع المخلوق.
لو قلت لك: يا أخي! ستسافر معي؟ فتقول أنت: أنا موافق، فأقول لك: بشرط أن تخلفني في أهلي؛ فإنك ستقول: أنت مخطئ هل سأقسم نفسي نصفين؟ فإما أن آتي معك وإما أن أخلفك في أهلك، اختر واحدة من اثنتين؛ لأن قدرتي لا تتسع للأمرين، لكن قدرة المولى تبارك وتعالى فوق ذلك بكثير، فهو القدير وهو القادر تبارك وتعالى، فإنه يصحب كل من يسافر، والأمة كلهم مسافرون وحاضرون، والله تبارك وتعالى معهم جميعاً في الحضر والسفر.
قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) فجمع بين كونه صاحباً له في السفر، وخليفة له أيضاً في أهله.
وفي الحديث القدسي العظيم في سورة الفاتحة: (إذا قال العبد أو المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الرب: حمدني عبدي)، فكم من الناس يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]؟ ملايين، مع أن لكل واحد من الله عز وجل جواباً على حده؛ لأن الله تبارك وتعالى ساق في هذا الحديث الجواب بصيغة الفرد: (إذا قال عبدي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي)، والثاني يقول: الحمد لله، وفي نفس الوقت تلقى آخر في مكان آخر بل في نفس المسجد يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:4 - 6]، ولكل واحد منهم جواب.
فالله تبارك وتعالى يجيبه، فلو قلت لك: أنا وأدهم مثلاً سنقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، على نَفَس واحد، وسنقرأ الفاتحة كلها، وأنت تقول: حمد أدهم وحمد حسن، ومجد أدهم ومجد حسن، فهذا ليس في قدرتك، لكن المولى تبارك وتعالى عليم بما يقول العباد حتى وإن أسروا في أنفسهم، بل هو أسهل من السهولة عليه تبارك وتعالى أن يرد على كل واحد وإن تعددت أقاويل المتكلمين، ويجيب كل واحد بما يتناسب مع سؤاله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]، حمدني عبدي، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3 - 4]، والمولى تبارك وتعالى يجيب على جميع الخلائق؛ لأن هذا في قدرته، وإذا كان هذا في مقدور الخالق تبارك وتعالى؛ فلا بد أن تقر أن المقاييس التي تحكمني أنا ليست هي المقاييس التي تحكم كلام الباري تبارك وتعالى.
فلما أقول: إن الله تبارك وتعالى في السماء وهو معنا، لا بد أن تؤمن بذلك؛ لأنه في مقدوره تبارك وتعالى أن يكون معنا، فعندما أسألك عن أخيك مثلاً تقول: هذا يا أخي! مسافر في المنصورة، لي (10) سنوات منه ولا أعرف عنه شيئاً، لكن الله تبارك وتعالى يعلم عنه كل شيء، ويعلم عنك وأنت هنا كل شيء، ويعلم جميع الخلائق على بعد أوطانهم، وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم وقلوبهم، يعلم كل شيء، عالم الغيب والشهادة لا يعزب عن علمه شيء يعلم كل ذرة وكل دقيقة؛ لأنه عليم وعلاَّم -صيغة مبالغة- أي: لا يخفى عليه شيء مهما حاول أحد من المخلوقين أن يخفى عن الناس؛ فإنه لا يخفى على الله عز وجل؛ لأنه عالم الغيب وعالم الشهادة.
وقد ثبت في السنة أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يدعون الله تبارك وتعالى بصوت عالٍ جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، يعني: ادعوا بصوت هادي، فالله يعلم كل هذا ويشاهده؛ لأنه