قال: [فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة].
أي: أن أسوأ شيء يضر بدينك أن يناظر أهل العلم مبتدعاً في حضورك؛ لأن كلامه جميل ولسانه حلو، لكن السم الذي يحمله هذا الكلام الحلو لا يعرفه إلا أهل العلم، ولذلك يقول القائل: إن هذه الجماعة الفلانية أو الطائفة الفلانية أو الفرقة الفلانية تقول: كيت وكيت، وهذا الكلام جميل ومعقول.
لا يا مسلم! لا يوجد شيء اسمه معقول، إما أن يكون هذا الكلام موافق لكتاب الله وسنة رسوله، أو لا، وإما أن يكون هذا الكلام له أصل عند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أو لا، لذا فأنت لا تعرف هذه المعاني، إنما الذي يعرفها هم أهل العلم، فلا تغتر بحلاوة كلام أهل البدع، فربما يكون كلامهم أحلى من كلام أهل السنة؛ لأن الباطل له بريق، وإلا فلم وقع فيه الناس؟ أما في الداخل فالسم الزعاف، لكن هذا الداخل لا يعرفه حتى قبل الدخول فيه إلا أهل العلم، ولذلك ما ابتلي المسلمون قط بلاءً أعظم من ظهور هذه البدع على عامة الناس، ومناظرة أهل البدع.
قال: [ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك].
أي: أن أكثر شيء تغيظ به المبتدع أنك تهمله وتتركه، لكن هذا مشروط بأن تكون بدعته في طي الكتمان، أما لو ظهر ببدعته وصار له أتباع وشوكة، وصولة وجولة فلا، بل لابد من فضحه حتى يرجع إلى الحق، أو حتى يتضح أمره عند عامة الناس.
أما لو كانت بدعته غير معروفة ولا منشورة فاتركه ولا ترد عليه؛ لأنك بذلك تكون قد قتلته قتلاً، يقول المتنبي: أرى كل يوم تحت ضبني شويعر قصير يطاولني ضعيف يقاويني لساني بنطقي صامت منه عاذل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل فأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل أي: عندما يناديك شخص وأنت لا ترد عليه فإنك تغيظه غيظاً لا غيظ بعده.
ومثل ذلك: شخص يريد التحرش بك، فيظل يشد في ثيابك وذراعك، وربما يناديك بأقبح شيء، ومع هذا فأنت تهمله، فيكون بذلك قد قتلته وأغظته غيظاً مابعده غيظ، أما إذا كان الأمر يستوجب الضرب على الرأس، فهذا أمر لابد منه.
قال: [ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً].
لأنه أحياناً تجد شخصاً من أهل البدع يأتي إليك ويراك بأنك رجل سني بلحية تلبس طاقية أو عمامة بيضاء صغيرة، فيقول لك أمام الناس: ألست من أهل السنة والجماعة؟ فتقول له: نعم.
فيقول لك: وأنا مبتدع، فتعال وناقشني.
فيحضر حاشيته بالكامل، والذي يهمه أن هؤلاء الناس يعتقدون فيه هو، فيقول لك: تعال، أنا أقول كيت وكيت، فهل ممكن أن ترد هذا الكلام؟ أنت لست طالب علم، ولم تكن تحضر المجالس، ولا تحفظ شيئاً من العلم، وإنما كنت تكتفي بسماع الخير فقط، فكيف سترد عليه؟ هل تقول له: والله أنا لا أعرف كيف أرد عليك؟! أو تقوله له: اذهب إلى الشيخ فلان، أو يا فلان اذهب إلى الشيخ فلان وائت به، فيأتي الشيخ فلان، ثم يقول المبتدع: أنا أقول كيت وكيت، وهي في الحقيقة شبهة جديدة غير الأولى التي طرحها؛ لأن هذا الشيء هو ديدنه، فلن يطرح على الشيخ المبجل ما يطرحه على الجاهل قبله.
وما إن يأتي فإن الشيخ يجهز رده على الشبهة التي ألقاها فلما يحضر الشيخ يقول المبتدع: اترك هذه المسألة، فقد علمت خطئي فيها.
وأنا أقول كيت وكيت، فيلقي شبهة جديدة لا يعرف الشيخ الرد عليها، ويظل يصرخ ويشتم فيه؛ لأن هذه هي حجة الضعيف.
وهذا ينزل من قدر الشيخ عند المستمع ويرفع من قدر المبتدع.
أما هو فيدعي الوقار وسمت أهل العلم، وفي هذه الحالة سيرتفع هذا المبتدع في أعين ونظر أتباعه ويسقط الشيخ، وكل ذلك لقلة العلم.
قال: [حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة -أي: ظهرت دعوة أهل البدع بالمناظرة- وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه بالحجج- فباتت الشبهة حجة والحجة شبهة- وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقراناً وأخداناً، وعلى المداهنة خلاناً وإخواناً بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداداً، وفي الهجرة في الله أعواناً، يكفرونهم في وجوههم عياناً، ويلعنونهم جهاراً، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين.
نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة، ويعصمنا بهما بفضله ورحمته].