استنباط آخر من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، والمخلوقات كلها معلوم أنها تفنى وتبيد وتنتهي، فكل مخلوق حادث، وكل حادث لابد أن يطغى عليه الزوال والفناء.
وقد قال قوم من الكفار: غداً هذا القرآن ينتهي، فالكفار والمنافقون كانوا ينزعجون جداً من نزول آية أو آيات، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن كلام الله سينتهي، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية؛ ليبين أن كلامه أول بأولية الله عز وجل ولا آخر له؛ لأنه ملازم لذاته، فقال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:27] يعني: لو أنكم جمعتم أشجار الدنيا بأسرها فجعلتموها أقلاماً، وجعلتم مع البحار سبعة أبحر كلها حبر ومداد، وكتبتم بهذه الأقلام التي من مجموع أشجار الدنيا بعد وضعها في ذلك المداد؛ لنفدت هذه البحار، وتكسرت وفنيت هذه الأقلام وانتهت، ولم تنته بعد كلمات الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على أنه قادر على الكلام في أي وقت شاء وفي أي زمان شاء.
قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] أي: لم تنته كلمات الله، والمخلوقات كلها تنفد وتفنى وكلمات الله لا تفنى، وتصديق ذلك قوله تعالى حين يفني خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، أليس هذا قول أيضاً؟ وهو سؤال يوجه يوم القيامة قبل البعث وبعد النفخ -أي: النفخة الثانية أو الثالثة على مذهب- وفناء الخلق أجمعين، فالمولى تبارك وتعالى في سماه ينادي نداءً: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وهو الذي يجيب على نفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؛ لأنه ليس هناك أحد من خلقه يجيب هذا الجواب.
فالشاهد من هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى بعد أن أفنى جميع المخلوقات وأبادهم وأماتهم وأهلكهم تكلم وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وهذا في حد ذاته قول؛ ليدل على أن قول الله غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً للزمه الفناء مع بقية المخلوقات، ولكن الله تعالى لما أفنى جميع المخلوقات تكلم بعد هذا الفناء العام؛ ليدل على أن كلامه سبحانه ليس مخلوقاً؛ لأنه لو كان كذلك لطرأ عليه الفناء والفساد -عياذاً بالله تبارك وتعالى- على قول من يقول بأن كلام الله مخلوق.
وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، يعني: يوشك أن ينتهي، فأنزل الله تعالى ما تسمعون -أي: هذه الآية- رداً عليهم.
يقول: لو كان شجر الأرض أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفدت البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وكلماته وعلمه؛ لأن هذا من صفات المولى تبارك وتعالى، فإنه لا يفنى ولا يبيد.