قال: (فأما دلالة العقل فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها؟ يعني: هل وجد هذا الكون وما فيه من سماء وأرض وأجرام ومجرات وآيات عظيمة بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ قال: فإن قلت: وجدت بنفسها فمستحيل عقلاً يعني: أن العقل يحيل أن توجد هذه الكائنات بنفسها؛ إذ إنها في أصلها عدم ثم أنشئت، فكيف تكون موجودة وهي معدومة؟ والمعدوم ليس بشيء حتى يوجد فضلاً عن أن يوجد).
فهي لا يمكن أن توجد نفسها؛ لأنها في الأصل معدومة، والمعدوم لا يوجد نفسه، فكيف يوجد غيره؟ وإن قلت: وجدت صدفة فنقول: هذا يستحيل عقلاً أيضاً، فهل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها وجد صدفة؟ فلابد أن يقول: لا يمكن أن يكون ذلك، وكذلك هذه الجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة كذلك، ولا يتصور أن هذا التقدم الحضاري الذي يمر به العالم الآن وجد هكذا صدفة؟ وهل وجدت الطائرة أو الصاروخ أو أي آلة إلكترونية من قبل الصدفة، أم درس ذلك دراسة علمية منضبطة على المنهج التقني والحديث؟ لابد وأن ذلك كان مدروساً، فهذه الحضارة التي هي موجودة الآن التي عمرت الأرض شرقاً وغرباً لا يمكن أن يقول أحد أنها وجدت صدفة، وإذا كان الأمر كذلك فلابد وأن تكون مخلوقات الله عز وجل لها مدبر.
ويقال: إن طائفة من السمنية -وهم فرقة من أهل الهند- جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وهل الخالق لهذا الكون موجود أم غير موجود؟ وكان هذا في القرن الثاني الهجري، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يجيبهم بعد يوم أو يومين، فذهبوا ثم عادوا بعد يوم أو يومين وقالوا: ماذا قلت؟ قال: أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا يا أبا حنيفة؟! قال: نعم.
قالوا: إذاً ليس لك عقل، فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول.
قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه.
فهذا حجة عقلية في إثبات وجود الله عز وجل، ونحن متفقون أن الله تعالى إنما وجبت معرفته بالسمع، ولا بأس بمعرفته استئناساً بالعقل، والله تبارك وتعالى خاطب العقول الراجحة السليمة في القرآن في غير ما آية في عشرات ومئات الآيات، مثل قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [محمد:24]، وغير ذلك من الآيات التي تخاطب العقل وتأمره بالتدبر والتفكر في آيات الله عز وجل وفي الخلق والكون وغير ذلك.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير.
يعني: لو أن جملاً مشى في الصحراء لعرف أثر قدمه، والعرب كانوا يعرفون آثار الأقدام، ونحن في هذا الوقت لا نعرف ما يمشي إلا السيارة، وأما الأعراب فكانوا يعرفون أن الذي مشى من هنا معزة فلان، فكانوا يعرفون حتى لمن هي، فهذه حياتهم.
وكان أحدهم يضع أذنيه قريباً من الأرض، وقد يسمع أصواتاً من بعد فإذا نظر ولم ير أحداً وإنما سمع دبيب الأرجل على الأرض علم أن هناك أناساً جاءوا من الشمال أو من اليمين أو من الجنوب.
فهذه حياتهم، وهم أئمة في ذلك.
فهذا الأعرابي لما سئل: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ بلى.
ولهذا قال الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
يعني: أهم خلقوا من غير شيء فأوجدوا أنفسهم بعد أن لم يكونوا؟ أم هم الخالقون للكون؟ أم أنهم كانوا في الأصل عدماً؟ فكيف أوجدوا أنفسهم فضلاً عن كيفية إيجادهم لغيرهم؟ فالعقل يدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل، ولا بأس بأن نقول: معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالسمع، ولا بأس أن نستأنس بالعقل السليم الراشد.