قال: [(خرج النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى المدينة ومعه مولى لـ أبي بكر وهو عامر بن فهيرة، ومعهم عبد الله بن الأريقط، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في تلك الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟! فقالت: خلفها الجهد عن الغنم)]، هذه الشاة من فرط إعيائها ما استطاعت أن تلحق ببقية الشياه، فتخلفت في الخيمة، [(فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك)] أي: هي ليس فيها لبن، ولو كانت مما تُحلب فإن جهدها وتعبها يمنعها من ذلك.
[قال: (أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: نعم.
إن رأيت فيها حليباً فاحلبها)]، هذه الشاة ليس فيها حليب، وهي لم تلد ولم يقربها فحل، ولكن أنت وشأنك إذا أردت أن تحلبها وتستجيب لك فافعل، [(فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه -أي: فتدفق اللبن عليه- ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط -أي: يروي القوم والفئة من الناس- فحلب فيه ثجاً -يعني: نزولاً سريعاً- حتى علاه البهاء -يعني: علاه الرغوة اللبنية وهذا للدلالة على أنه قد امتلأ- ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب صلى الله عليه وسلم)]، آخر من شرب الرسول عليه الصلاة والسلام امتثالاً لأمره: (إن ساقي القوم آخرهم شرباً).
[قال: (ثم أراضوا -يعني: استراحوا شيئاً من الزمان يسيراً- ثم حلب حلبة ثانية ثم غادره عندها، ثم بايعها وارتحلوا عنها)] (ثم بايعها) أي: أسلمت على يديه عليه الصلاة والسلام لما رأت من معجزاته في شاتها، ومن مزيد رحمته عليه الصلاة والسلام أنه حلب حلبة ثانية وجعلها خاصة بصاحبة الشاة، وهي أم معبد رضي الله عنها، قال: [(فقلما لبثت -أي: لبثت هذه المرأة وقتاً يسيراً- حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلىً وضحى، مخهن قليل)] والمخ بمعنى: سوق الشياه والأعنز التي ساقها أبو معبد كادت تكون عظاماً، يعني: غدت خماصاً وعادت خماصاً، لم تعد بطاناً.
قال: [(فلما رأى أبو معبد اللبن عجب)] وأنتم تعلمون أن هذا في طريق الرحلة إلى المدينة، فهذا الكلام تم في الصحراء، فمن أين لـ أم معبد اللبن؟ لكن انظر إلى تقدير الله عز وجل في هذا اليوم بالذات تتخلف هذه الشاة دون بقية الشياه، حتى تتم المعجزة أمام عين أم معبد صاحبة الشاة، والأمور تجري بمقادير.