قال: [عن سعد بن حذيفة قال: سمعت أبا عبد الله -أباه حذيفة بن اليمان - يقول: والله ما فارق رجل الجماعة شبراً وكان يشير بإصبعيه عند فخذه إلا فارق الجماعة].
أي: إلا فارق الأمة وخالفها.
قال: [قال المسيب بن رافع: سمعت أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فقلنا: اعهد إلينا.
فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ -أي: لعلك تموت في هذه الواقعة- فقال: اتقوا الله واصبروا].
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120].
فهذا هو السلاح الذي يقهر العدو.
إن أعظم ما يريح العدو أن ترد عليه، وإن أكثر ما يجعله يستشيط غضباً وحنقاً وبغضاً ألا ترد عليه، فأعظم إهانة لعدوك ألا ترد عليه، وهو من الصبر الذي تعبد به الله تبارك وتعالى.
[قالوا: اعهد إلينا! فإن الناس قد وقعوا في الفتنة، فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ فقال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر].
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه.
قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) حتى الأرض التي يمشي عليها تستريح منه.
إن الناس لما يتعرضون للفتنة من الفتن لا يصبرون، فتراهم يشكون وكأنهم يتسخطون على الله عز وجل وعلى أقداره، ويتمنون أن لو يتمكنون فينتقمون ممن أساء إليهم، ألا تعلم يا عبد الله! أن ما عند الله خير وأبقى، وأن عذاب الله تبارك وتعالى أعظم من عذابك؟ فسلط لسانك في الثلث الأخير من الليل، اجعل بينك وبين عدوك الثلث الأخير من الليل، وكِّل ربك في هذه الحرب الضروس أن ينتقم لأهل الإيمان ولأهل التوحيد، أما أن تجعل الانتقام إليك أنت فإنك قد أوكلت الأمر إلى نفسك، وأنت ضعيف وهزيل لا تملك نفعاً ولا ضراً.
قال: [(اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة)].
إن العبد ينسلخ من دينه واحدة بواحدة ويظن أن الذي ينسلخ منه هو شيء يسير -وقد يكون كذلك في أول الأمر- ولكن مآله إلى أن ينسلخ من أصل اعتقاده، فتراه يتعرض لضرر أو لمكروه فيبدأ يحلق لحيته، فيجره حلق اللحية إلى معاص كثيرة، ثم يبدأ ينسلخ من الجماعة، وربما -قبل هذا- ينتقل من مسجد السنة إلى مسجد البدعة؛ فيفقد طعم الصلاة وحلاوتها ومذاقها ويفقد فيها الخشوع، ثم يشعر بالضجر والضيق ويقول: صلاتي في بيتي خير من صلاتي في هذا المكان، فيصلي في بيته عند كل أذان، ثم يبدأ يتأخر قليلاً قليلاً حتى يصلي الظهر مع العصر، والعصر مع المغرب، ثم ينام عن الفرض فيصلي الفرضين والثلاثة فروض والأربعة فروض بعد نومه واحدة تلو واحدة، ثم يترك السنن، ثم يترك قيام الليل، وهكذا يبدأ ينسلخ واحدة فواحدة؛ لأنه سلم زمام أمره إلى الشيطان من أول الأمر، فإنه لا يدل على خير وإنما يدل على كل شر.
ولكن الأفضل لو اتقى الله وصبر ووضع يده في يد إخوانه فإن الله تبارك وتعالى يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن رأى من المرء صدقاً وإخلاصاً وصبراً ثبته وأيده، وإن رأى منه إعراضاً أوكله إلى نفسه، ومن أوكل إلى نفسه هلك.
قال: [قال أبو وائل: عن أبي مسعود البدري قال: خرج معه أصحابه يشيعونه حتى بلغ القادسية، فلما ذهبوا يفارقونه قالوا: رحمك الله! إنك قد رأيت خيراً وشهدت خيراً -يعني: أنت أدركت الخير كله مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام الكبار- حدثنا بحديث عسى الله أن ينفعنا به.
قال: أجل].
يعني: سأحدثكم وأنتم قد طلبتم مطلباً عظيماً.
[قال: رأيت خيراً وشهدت خيراً، وقد خشيت أن أكون أخرت لهذا الزمان لشر يراد بي، فاتقوا الله وعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر].
قال: [قال حذيفة عند الموت: رب أيام أتاني فيها الموت وأنا كاره له، فأما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري على ما أنا منها.
قال: وأوصى أبا مسعود فقال: عليك بما تعرف ولا تتلون في دين الله عز وجل].
أي: لا تتقلب كل يوم تكون في مكان، كل يوم تكون في معصية؛ لأن من شأن الطاعة أنها تسلم إلى طاعة أخرى، ومن شأن المعصية أنها تفضي إلى معصية أخرى، وكلما تفرط في شيء صغير يجرك هذا التفريط إلى شيء آخر، فإذا كنت في صلاة سلمتك هذه الصلاة إلى صيام، والصيام إلى زكاة، والزكاة إلى أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف إلى العمل به، والعمل به إلى النهي عن المنكر، والنهي إلى الانتهاء عنه، فأنت في صراع مع نفسك، فكلما كنت في طاعة فكرت في غيرها فأسلمتك إليها، وإذا كنت في معصية أسلمتك إلى ما بعدها، فكما