أما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في باب التلقي والبلاغ فثابتة بالقرآن والسنة، وإجماع الأمة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم فيما تلقى عن ربه وفيما بلغه إلى الناس، لم يخف عنه شيئاً، ولم يزد في الشرع شيئاً، هذا أمر محل إجماع، ودليل الإجماع: نصوص الكتاب والسنة، ولذلك النسيان عرض من الأعراض، وقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيان، ولو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسى أو أن نسيان الأنبياء يطعن في الشرع؛ لأنه ربما نسي حكماً شرعياً، فأبدل مكانه كلاماً من عنده ظناً منه أنه وحي وليس كذلك، فلابد أن نقول حينئذ: إن نسيان الأنبياء أمر قد يقدح في الشرع، وليس كذلك باتفاق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نسي ولكن نسيانه لم يكن له أدنى تأثير على الوحي، لا من قريب ولا من بعيد؛ بدليل أنه عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً من أصحابه يقرأ في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فقال: (يرحم الله فلاناً قد ذكرني آية كنت قد نسيتها).
وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر مرة ركعتين، ثم سلم، فتهمهم الصحابة فيما بينهم، ولم يجرؤ أحد أن يراجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا رجلاً طويلة يداه يلقب: بذي اليدين، فقام إليه وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أم نسيت، ولو كان النسيان ممتنعاً في حق الأنبياء لقال له: كيف تعتقد في النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينسى؟ أما علمت أن النسيان يؤثر في الوحي، ويؤثر في البلاغ؟ فلما لم يقل له ذلك؛ فدل هذا على إقرار هذا الصاحب أن الأنبياء ينسون، وأنه لا حرج عليهم في ذلك، وأنهم ما نسوا شيئاً إلا بعد البلاغ.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما كان يتعجل أن يحفظ ما يلقى إليه عن طريق جبريل ويحاول قبل أن ينصرف جبريل عنه أن يحفظ الآيات التي نزلت، فأنزل الله تعالى قرآناً يضمن له أنه لا ينسى ذلك قبل البلاغ، فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
يعني: لا تتعجل أن تحفظ ما يلقيه عليك جبريل ولا تهتم لذلك، فسيعيده لك مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً حتى تحفظه حفظاً جيداً، وتفهم معناه وتأويله وتفسيره، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19]، أي: شرحه وتوضيحه وتفسيره، فلا تحمل الهم يا محمد، إنك لن تنسى أمراً قبل أن تبلغه للناس، مستحيل أن يكون ذلك؛ لأن هذا باب من أبواب العصمة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يتلقى الوحي عن الله ثم ينساه، وقد لا يبلغه للأمة، هذا مستحيل! ومن قال بذلك كفر بالله تعالى، لأنه يلزمه أن يقول: إن الشريعة لم تتم، وإن الدين لم يكمل، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
فالنبي عليه الصلاة والسلام ما مات حتى بلغ دين الله تعالى كاملاً، وأقره الله تعالى على ذلك قبيل موته، فأنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فالذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نسي أن يبلغ شيئاً يلزمه أن يقول: إن الدين لم يكمل، وإن الشريعة لم تتم، وبالتالي: يلزمه أن يكذب الله تعالى فيما أخبر وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فإذا كان النبي نسي شيئاً فالدين لم يكمل، فتكون هذه الآية كذب عياذاً بالله تعالى.
فهذا باب من أبواب الضلال العظيم.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما قام إليه ذو اليدين وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة؟ أي: أنزل عليك جبريل يأمرك بقصر الصلاة، فصليت الظهر ركعتين بدل الأربع، أم أنك نسيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قصرت وما نسيت)، يعني: لم ينزل علي الوحي بأنها قصرت، وما أظن أني نسيت، فقال: يا رسول الله! بل قد صليت ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحيح ما يقوله صاحبكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فقام وكبر وصلى ركعتين ثم سلم، ثم سجد للسهو).
فالنبي صلى الله عليه وسلم نسي بعد البلاغ، إذ إن ذا اليدين ما قال له ذلك إلا لشرع قد استقر عنده آنفاً أن الظهر أربع ركعات.
إذاً: النسيان الطارئ على الأنبياء لا يطرأ إلا بعد البلاغ، أما قبل البلاغ فمستحيل؛ لأن هذا يناقض عصمة التلقي والبلاغ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، بل كل الأنبياء معصومون في هذا الباب.
فقالت له عائشة: (يا رسول