ومن الفروق الدقيقة بين السحر، والمعجزة، والكرامة: أن السحر علم مكتسب يحصل بالتعلم والصناعة، والعلوم منها ما هو مكتسب، ومنها ما هو جبلي، كما أن من الحسد ما يكون جبلياً ومن الحسد ما يكون علماً، شخص يعرف أصول الحسد، ويحرص عليه، ويتابع أخبار الحساد أولاً بأول، وآخر ما وصل إليه الحاسد أو الحسود، ولذلك سنتعرض للحسد عند الكلام عن السحر، وسنذكر التفريق بينه وبين السحر لما بينهما من مفارقات واشتراكات، فالسحر علم مكتسب تماماً، كما أنك تتعلم العلم الشرعي، تجلس لتتعلم العلم الشرعي هذا اكتساب، فالعلم الشرعي لم يأتك من السماء وإنما أنت سعيت له لتتعلمه فهذا كسب منك في طلب العلم، وكذلك السحر، والدليل على ذلك حديث صهيب عند الإمام مسلم في كتاب الفتن أو كتاب القدر: (أنه كان ملك ممن كان قبلكم له ساحر يسحر له، فلما كبر الساحر قال للملك: لقد رق عظمي، وحضر أجلي، وكبر سني، فأرسل إلي بغلام أعلمه السحر) أي: حتى يكون خليفة له، والشاهد من الحديث: (أعلمه السحر)، فالسحر علم مكتسب.
وقال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، يعني: يتعلمون من هاروت وماروت علم السحر الذي به يستطيعون أن يفرقوا بين المرء وزوجه.
وقال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه:69]، وقال موسى لسحرة فرعون: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، فهذه الآيات وهذا الحديث تدل دلالة واضحة على أن السحر علم ويأتي عن طريق التعلم، وهو يتم بمعاناة أقوال وأفعال، وتعلم السحر حرام، وسيأتي معنا هذا الحكم بأدلته، لكن لا بد لمن تعلم السحر أن يتعلمه عن طريق القول والفعل.
أما الكرامة فلا تحتاج إلى شيء من المعاناة؛ لأنها هبة ومنحة من الله تعالى لولي من أوليائه، وعبد من عباده الصالحين، كالغلام الذي جاءت قصته في حديث صهيب: (لما كان يذهب إلى الساحر كان يمر براهب في الطريق فيقعد إليه ويسمع منه حتى إن كلامه أعجبه، فذات يوم وهو ذاهب إلى الساحر وجد دابة عظيمة قد حبست الناس، ومنعتهم من السير، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم ألقى بالحجر فقتله).
قال العلماء في شرح هذا الحديث: وفي هذا إثبات كرامات الأولياء، كما أنه في نهاية الأمر قال للملك الجبار الطاغية: (إنك لا تستطيع أن تقتلني إلا إذا فعلت ما آمرك به، قال: وما هو؟ -أي: وماذا تأمرني به؟ - قال: أن تأخذ سهماً من كنانتي، فتضعه في كبد القوس، وتصلبني على جذع نخلة وتجمع الناس في صعيد واحد ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإذا فعلت قتلتني وإلا فلا، فلما فعل الملك قتله، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام).
والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله لما كان يقال له: فلان مصروع أو فيه مس أو شيء من هذا، كان يرسل نعله، وكان أحمد بن حنبل يرسل نعله، فإذا رأى الجن نعل أحمد قال: والله لو أمرني أحمد بن حنبل أن أخرج من بغداد لخرجت، وليس من بدن المصروع فحسب، فهذه المسألة متعلقة بتقوى الله عز وجل، وبقوة الإيمان، ورسوخ اليقين في قلب العبد، فما بالنا نجد الشاب في هذه الأيام لا يحفظ شيئاً من القرآن، ولا يحسن الصلاة ولا الصيام، ولا شيئاً من العبادة ثم هو يذهب بنفسه إلى المصروع فيضربه، ويحرقه بالنار أحياناً، ويشتمه، ويبصق في وجهه ويفعل الأفاعيل، ولا زال الجني يتلاعب به، وهذه المسألة ليست صناعة بل هي من كرامات الأولياء، وهبة من هبات الله عز وجل، ومنحة من منحه لعباده الصالحين.
وهذا بخلاف المعجزة، فالمعجزة تعطى لأنبياء الله ورسله، كما أن الكرامة لعباد الله الصالحين من أوليائه دون الأنبياء والمرسلين، أما المعجزة فهي للأنبياء والمرسلين، فلا يقال لأمر خارق للعادة على يد ولي من أولياء الله: هذه معجزة؛ لأن المعجزة لا تكون إلا مع نبي خلافاً للكرامة فإنها مع الولي.
يقول ابن خلدون: المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك، والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه، وبقوته النفسانية الشريرة، وبإمداد من الشياطين في بعض الأحيان.
إذاً: السحر علم مكتسب، والكرامة هبة ومنحة من الله تعالى، وكذلك المعجزة، لكن المعجزة تكون على يد أنبياء الله ورسله، هذا هو الفارق الأول بين السحر والكرامة والمعجزة.