[عن البراء بن عازب قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار -يعني: مسلم وهو من الأنصار- فانتهينا إلى القبر ولم يلحد له -يعني: ذهبنا به إلى المقبرة، ولم يوضع هذا الأنصاري في قبره بعد- فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير)] يعني: تشبيه بالحجارة أو بالشيء الثابت الذي لا يتحرك حتى ظن الطير أنهم ليسوا بشراً! أما اليوم تنظر وتجد الناس يمشون في الجنازة يغمز بعضهم البعض، ويضحكون مع بعض، ويحكون حكايات وروايات وقصصاً، ومنهم الذي يبكي من الضحك جبراً لخاطر أهل الميت فهذه مناظر مخزية كلها، لا يفكر صاحبها أنه يمكن أن يكون في آخر النهار في هذا النعش.
وسئل بعض الناس ممن يمشي مع الجنازة: هل الذي يمشي أمام الجنازة أفضل أم الذي يمشي وراءها؟ قال: يمشي وراءها أو يمشي أمامها لا مشكلة، المهم ألا يكون في النعش! ويمشي وهو يضحك وكأن الأمر يستحق الضحك! [(فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، في يده عود ينكت به في الأرض)]، وهذا تصرف الإنسان الذي امتلأ فكراً وعبرة، الذي يفكر في أمر عظيم وخطير [(فرفع رأسه عليه الصلاة والسلام فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال: إن العبد المؤمن)] هو يعقد مقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، وماذا يقدم كل منهما؟ وكيف يقدم العبد على ربه؟ فبدأ بالمؤمن.
قال: [(إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا)] يعني: إذا انتهت حياته وبدأ حياة أخرى، والقبر هو أول منازل الآخرة، وآخر منازل الدنيا، ولذلك قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] أي: في القبر، كما مر بنا آنفاً.
قال: [(نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه)] فهو أمر يناسب العبد المؤمن، فالملائكة عند ذلك يأتونه في صورة حسنة بهية، في ثياب بيض.
[(كأن وجوههم الشمس -من البياض- معهم كفن من كفن الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه)] وهذا في لحظة الاحتضار، كما قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا) يعني: لحظة الاحتضار، التي يكره المرء فيها لقاء الله أو يحب لقاءه، إذا نظر إلى مكانه من النار كره لقاء الله، وإذا نظر إلى مكانه من الجنة أحب لقاء الله، فتأتي الملائكة بيض الوجوه يجلسون منه مد البصر.
أي: بعيداً عنه قليلاً.
[(ثم يأتي ملك الموت ويقف عند رأسه فينزع منه الروح نزعاً رفيقاً ليناً)] هذا النزع ربما يكون فيه بعض الإيلام، لكنه إذا قورن بنزع روح الكافر كان في منتهى اليسر والسهولة، وشيء هين لين.
قال: [(ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.
قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين)] قوله: لم يدعوها، الضمير عائد على الملائكة الذين جلسوا منه مد البصر، فالذي يتولى نزع الروح هو ملك الموت، ثم الذي يصعد بها: الملائكة الآخرون، والذي يتوفى الأنفس هو الله عز وجل.
إذاً: المميت على الحقيقة هو سبحانه وتعالى، والذي يتولى إخراج الروح هو ملك الموت، والذي يتولى الصعود بهذه الروح ملائكة آخرون.
قال: [(لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلونها في ذلك الكفن وذلك الحنوط -الذي هو من أكفان الجنة ومن حنوط الجنة- فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض -أي: لها رائحة طيبة جداً، وهي رائحة الإيمان والعمل الصالح- فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا -أي: هؤلاء الملائكة- ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه الذي كان يدعى بها في الدنيا -أي: في أثناء حياته- حتى ينتهون بها إلى سماء الدنيا -أي: السماء الأولى- فيستغفرون له -وفي رواية-: فيستفتحون له)] يعني: يستغفر للمؤمن أهل السماوات الدنيا، أو يستفتح الملائكة الذين معهم هذه الروح أهل السماء الدنيا من الملائكة فيفتحون لها ولهم.
قال: [(فيشيعه من كل سماء مقربوها -أي: الملائكة المقربون في كل سماء هم الذين يشيعون هذه الروح الطيبة- إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض)] أي: تذهب الروح إلى جسد صاحبها.
قال: [(فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه في جسده)].
إذاً: عند أن قلنا: تعاد إلى الأرض في جسده لم يكن هذا اجتهاداً وإنما هو نص، كما في قوله: [(فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسل