Q هناك اختلافات في بعض الأمور الفقهية بين الأئمة الأربعة، فهل يجوز أن نأخذ برأي إمام واحد دون الأئمة الآخرين، وهل هذا الاختلاف رحمة؟
صلى الله عليه وسلم اختلاف العلماء اختلف فيه الناس إلى قسمين: قسم يرى أن الاختلاف منه خطأ وصواب.
وقسم يرى أن الاختلاف رحمة، وأنه يجوز للعامي الذي ليس له نظر في الأدلة أن يقلد أي المذهبين.
والأدلة التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام تشهد لهذين الرأيين، فمثلاً الاختلاف في العقائد وفي أصول الدين وكليات الشريعة عبارة عن خطأ وصواب، وقول بعض فرق الإباضية مثلاً بإنكار الصلوات الخمس، وأنها صلاتان، صلاة في أول النهار وصلاة في آخر النهار هذا الخلاف في الأصول، والخلاف فيه خطأ وصواب.
والشيعة ينكرون المسح على الخفين، وجماهير المسلمين يقولون بسنية وجواز المسح على الخفين.
فخلاف الشيعة لجماهير علماء المسلمين خلاف غير معتبر، وهو خطأ.
فالخلاف منه ما هو خطأ وصواب، ومنه ما هو رحمة وسعة.
ومثال اختلاف الرحمة: قوله قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فلما كادت الشمس أن تغرب قبل أن يصلوا العصر ولم يدخلوا بني قريظة انقسم الصحابة فريقين، فقال أحدهما: ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر لفظه، ولكنه أراد أن يبشرنا بأننا سندخل في بني قريظة قبل غروب الشمس، فحملوا كلامه على أنه خبر بشارة بدخول بني قريظة قبل غروب الشمس، ولكن الواقع أننا لم ندخل، فلن نترك الصلاة وقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، والله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
وهذا وقت العصر، فكيف نتركه متعمدين حتى تغرب الشمس؟ والله لنصلين، فصلوا.
وقال الفريق الثاني: إنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر نصه، وأننا لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى وإن غربت الشمس.
فهؤلاء قالوا: النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد منا ترك الصلاة، والفريق الثاني قالوا: نأخذ بظاهر كلامه عليه الصلاة والسلام وعليه المسئولية صلى الله عليه وسلم.
والحجة ليست في فعل هذين الفريقين، وإنما الحجة في أنهم لما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قصوا عليه الخبر فلم ينكر على أحد الفريقين، فلم يقل للذين صلوا: لِم صليتم وقد أمرتكم ألا تصلوا إلا في بني قريظة؟ ولا للذين لم يصلوا: أنا ما أردت ذلك، ولم لم تصلوا لما كادت الشمس أن تغرب وقد علمتكم مواقيت الصلاة؟ لم يثبت عنه ذلك.
بل الثابت أنه أقر هؤلاء وهؤلاء، مع اختلافهم في الاجتهاد؛ لأن الأصل واحد.
فأصل هؤلاء أنهم حرصوا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصل هؤلاء كذلك أنهم حرصوا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف من حرص على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا شيء آخر.
وغسل الوجه في الوضوء لم يختلف أحد من أهل العلم أنه واجب؛ لأن الأصل واحد، ومرده إلى الكتاب والسنة.
ولكن أهل العلم من أهل السنة اختلفوا في المضمضة والاستنشاق، فمنهم من قال بالوجوب، ومنهم من قال بالاستحباب، وترك الاستحباب لا يؤثر في صحة العمل، وخلافهم لم يقع عن هوى، والظن بعلمائنا أن مرد أمرهم كله إلى الله عز وجل ورسوله.
فقال الفريق الأول: إذا كان الله تعالى أمر بغسل الوجه فالفم والأنف من الوجه، فهما داخلان في الأمر، وقد بين ذلك بسنته العملية صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحافظ على المضمضة والاستنشاق، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبتان لعموم الأمر بغسل الوجه والسنة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام وجيه.
وقال الفريق الثاني: نحن متفقون مع الفريق الأول على وجوب غسل الوجه، وهذا أصل لا نختلف فيه، وإنما نختلف معهم أن الفم والأنف من الوجه، فظاهر الأنف وظاهر الفم من الوجه، وأما باطن الأنف الذي هو محل الاستنشاق وباطن الفم الذي هو محل المضمضة فليسا من الوجه.
فلما سألهم الفريق الأول: لِم كان يتمضمض ويستنشق عليه الصلاة والسلام وعمل بهذا الخلفاء من بعده، وعملهم حجة؟ قالوا: إن فعلهم ومواظبتهم محمولة على الاستحباب والندب لا على الوجوب، ونحن لا نختلف معكم في جواز ومشروعية المضمضة والاستنشاق، وإنما نختلف معكم في حكم المضمضة والاستنشاق، فأنتم تقولون: واجب، ونحن نقول: مستحب، والفرق بيننا وبينكم أن ترك الواجب يأثم به التارك، وأما ترك المستحب فلا يأثم به التارك.
وهذا الخلاف مقبول ومعتبر.
فإن كنت ممن لا نظر لهم ولا فقه في أدلة أهل العلم والترجيح بينها فإمامك هو مفتيك، وأما إذا كنت من أهل العلم أو من طلاب العلم الذين لهم نظر وبصر في الأدلة، وتستطيع أن ترجح بين أقوال العلماء من واقع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع فإن التقليد لا يسعك، ولا يسعك إلا أن ترجح في كل مسألة من مسائل دينك فتلتزمها.
والله تعالى أعلم.