في هذه الأزمنة يكثر الذين يتحملون الديون، ثم يدعون الإعسار، وإذا ادعوا الإعسار أخذوا يتسولون، وأخذوا يطلبون من الأثرياء، ولا شك أن كثيراً من المتسولين ليسوا صادقين، بل أهل حيل، فلذلك فإن القضاة إذا ادعى أحد الإعسار لا يقبلون منه إلا بعد سجنه، فإذا صبر في السجن مثلاً نصف سنةٍ أو سنةً أو نحوها، عرف بذلك صدقه.
وقبل ذلك لابد أن يبحث عن ملكه، ماذا يملك؟ هل عنده عقار يستغني عنه؟ هل له رصيد أو حساب في أحد المصارف؟ هل له غرماء يطلب منهم مالاً؟ أي: عندهم له أموالٌ وديون، لا بد للقاضي أن يستفصل ويبحث.
وإذا أعطى الإنسان زكاته لمن يعتقده فقيراً، وكان في نفس الأمر غنياً، فإنه يعتبر قد برئت ذمته؛ لأن الغارمين لهم حقٌ في الزكاة، فقد جعلهم الله من جملة أهل الزكاة، فلابد للقضاة أن يتثبتوا وأن يتحققوا.
وكثيرٌ من الناس يستدينون أموالاً كثيرة ثم يسرفون، فتجدهم يبنون مبانٍ فاخرة، ويصرفون عليها مئات الألوف، فالأولى بالقاضي مع من كان من هؤلاء أن يقول: نبيع عمارتك هذه التي تساوي مليوناً أو أكثر، ونشتري لك عمارة بثلاثمائة ألف ونحوها، ونوفي الدين، فأنت قد أسرفت، وأخذت أموال الناس وصرفتها في هذه الزينات، وفي هذه الأنواع التي زخرفت بها هذا البناء، فهذا يعتبر من الإسراف، فلا يقبل منه ولا يقول: اسجنوني حتى تؤدي عني الحكومة أو ما أشبه ذلك، بل على القاضي أن يتثبت، وألا يصدق كل من يدعي، فقد يكون هناك كثيرٌ من المحتالين، وقد ظهر لبعض القضاة حيل كثيرٍ منهم، يأتي مثلاً إلى إنسان ويقول: اشتكني وادع أن في ذمتي لك خمسمائة ألف، وأنا سوف أعترف عند القاضي بأنها ثابتة، وبأنها قيمة السيارات، أو قيمة مواد بناء، أو ما أشبه ذلك، فإذا ثبتت في ذمتي أدعيت بعد ذلك الإعسار، فإذا ادعيت لا يضرني إذا سجنت نصف سنة ثم دفعت الحكومة عني، أو دفع الأثرياء، أو دفع من صندوق البر ثلثاها: أربعمائة أو نحوها، ثم أقتسمها أنا وأنت.
وقد ظهرت حيل كثيرة مثل هذه، فعلى القضاة أن يتثبتوا، فإذا ثبت أن هذا مدين، وأنه ليس عنده شيء يوفي به دينه، قل أم كثر فإنه معذور، ولا يجوز حبسه، ولكن يؤمر بأن يوفي دينه مهما استطاع، وإذا كان الدين مؤجلاً فلا يجوز مطالبته؛ لأن الدين لم يحل، ولا يجوز حبسه، ولا تجوز ملازمته، وإن كان عليه دين مؤجل فلا يجوز لأصحاب المؤجل أن يطالبوا بحقوقهم، ويقولون: أعطونا من ماله الذي تقتسمونه، فإن ديننا ثابت، نقول: دينكم مؤجل، فإن حل قبل أن تقسم الأموال أخذتم قسمكم، وإن قسم قبل الحلول فليس لكم مع هؤلاء شيء.
ومن مات وعليه دين مؤجل لم يحل، ويبقى إلى أن يحل، ولكن لو خاف أصحاب الدين المؤجل من الورثة أن يقتسموا الميراث، ويقولون: ما عندنا لك شيء، فلابد للدائن أن يطالبهم فيقول: إما أن تعطوني ديني ولو كان مؤجلاً، أو تعطوني بعضه وأسقط بعضه -على قول من أجاز ذلك- أو تأتوني بكفيل يكفل حقي، ويضمنه عند حلوله، أو ائتوني برهن أتوثق منه، فإذا وثق دينه برهن محرز بقدر الدين، فإنه يكفي أو يضمنه كفيل.