يجوز عقد الذمة لمن له كتاب أو شبهته، ومعنى (عقد الذمة) : أن الكفار من اليهود أو النصارى ونحوهم تعقد لهم الذمة، والذين يشبهونهم هم المجوس، فاليهود لهم كتاب التوراة، والنصارى لهم كتاب الإنجيل، أما المجوس فقيل: لهم شبهة كتاب، والله تعالى ما أمرنا أن نعقد الذمة إلا لأهل الكتاب، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، فقيدهم بالذين أوتوا الكتاب، أما الوثنيون فلا يعقد لهم ذمة، وهذا هو القول المشهور.
وذهب بعض العلماء إلى أنها تؤخذ الجزية من جميع الكفار: من الوثنيين والمشركين والدهريين والهندوس والبوذيين ونحوهم؛ وذلك لأن القصد من أخذها هو إقرارهم حتى يعرفوا الإسلام، ثم يدخلون فيه، وهذا هو الواقع؛ فإن كثيراً من المجوس الذين في المدائن وخراسان لما رأوا معاملة المسلمين لهم كان ذلك مما حملهم على الإسلام، فأسلموا وصاروا من جنود الإسلام، وصار أولياؤهم وأولادهم من علماء المسلمين، فـ أبو حنيفة كان أصله مجوسياً، وكذلك البخاري من أصل مجوسي وكثير غيرهما، فدخل أجدادهم في الإسلام بسبب حسن التعامل الذي كانوا يشاهدونه من المسلمين، فرأوا أن هذه المعاملة حرية أن أهلها أهل دين صحيح، فلذلك دخلوا في الإسلام.
فعلى هذا لا فرق بين الكتابي وغيره في أخذ الجزية، ولكن الآية صريحة في تقييد أخذ الجزية بأهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فهذا قيد، فلذلك اقتصر بعض العلماء في أخذ الجزية من أهل الكتاب فقط.
وإذا نظرنا في الأدلة الأخرى وجدنا فيها ما يجيز أخذها من غيرهم، ففي حديث بريدة الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا لقيت عدوك من المشركين -ولم يقل: عدوك من أهل الكتاب- فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك لها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، ثم ادعهم إلى الجزية، ثم إن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) فجعل ثلاث خصال: الخصلة الأولى: الإسلام، والخصلة الثانية: الجزية، والخصلة الثالثة: المقاتلة، فاستدل بهذا الحديث على أنها تؤخذ من جميع الكفار.
وعلل الذين قالوا: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب بأن أهل الكتاب لهم دين يعتقدون صحته، ويظنون أنهم على حق، وأنه دين سماوي، ولكن دينهم منسوخ، ولا يعتبر صحيحاً.
فالحاصل أن الفقهاء قالوا: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتابين، ومن المجوس وأتباعهم، وهم الذين دانوا بدينهم، مثل كفار بني تغلب، مع كونهم كانوا عرباً، ولم يدخلوا في الإسلام، ثم لما كان في عهد عمر ضرب عليهم الجزية فامتنعوا، وقالوا: نحن عرب، كيف تضرب علينا الجزية؟! فعند ذلك ضعّف عليهم الزكاة، وقال: الزكاة التي نأخذها من العرب المسلمين نجعلها عليكم مضاعفة، فرضوا بذلك، ونفروا من كلمة (جزية) ولكنهم بذلوها باسم الزكاة مضاعفة، فهؤلاء من كفار العرب، ولكنهم تبعوا النصارى، ولكن يقول علي وغيره: ما تبعوهم إلا في شرب الخمر؛ لأنهم يقولون: إنا نصارى بالاسم.
يقاتل أهل الكتاب ومن تبعهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، أما غيرهم من الكفار العرب أو من العجم الذين لا كتاب لهم فإنهم يقاتلون حتى يسلموا أو يقتلوا، فليس لهم إلا الإسلام أو السيف.