قرأنا في صفة الحج متى يحرم المحلون بالحج، وحكم المبيت بمنى ليلة عرفة، ومتى يذهبون إلى عرفة، وبيان الموقف في عرفة، وكيف يصلون الظهرين، وبيان وقت الوقوف بعرفة، ومتى يدفعون إلى مزدلفة، وكيف يكون الدفع، وكيف تصلى المغرب والعشاء هناك، وما المراد بالمشعر الحرام، وماذا يفعل عنده، ومتى يدفع إلى منى، وماذا يفعل الحاج إذا بلغ محسراً، ومن أين يأخذ حصى الجمار، ومقدار الحصى، وكيف يرمي، وماذا يدعو به عند الرمي، وأعمال يوم النحر، وكيف يرتبها، ومقدار ما تأخذه المرأة من الشعر تقصيراً، وبيان التحلل الأول، ومتى يفيض الحاج إلى مكة، واستحباب الشرب من ماء زمزم والدعاء، وحكم المبيت بمنى ليالي منى، وكيف يرمي الجمرات، ومتى ينفر من تعجل في يومين، وحكم من غربت عليه الشمس في اليوم الثاني عشر قبل أن ينفر من منى، وحكم طواف الوداع، ومشروعية الوقوف بالملتزم، وما تفعل الحائض والنفساء التي سقط عنها طواف الوداع، وحكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وبينا أن الزيارة تكون للمسجد لا للقبر، وأن السلام يكون بعد أداء صلاة تحية المسجد، وذكرنا صفة العمرة، ومن أين يحرم بها إذا كان من أهل مكة، ومتى يتحلل من العمرة.
وقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من الكتابة حول مناسك الحج، وبينوا ماذا يفعل الحاج في هذه المشاعر، ولا شك أن فيها شيئاً من الاختلاف بين العلماء، ولكن لكل اجتهاده، وأصح الأقوال ما وافق الدليل، والأدلة واضحة، والسنة محفوظة قولاً وفعلاً، والاختلافات التي وقعت بين الصحابة ومن بعدهم فيها مجال للاجتهاد.
فمن الاختلافات: الاختلاف في أي الأنساك أفضل؟ فالإمام أحمد يختار أن أفضل الأنساك التمتع؛ لأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم.
والإمام مالك يختار القران.
والشافعي يختار الإفراد، وفي رواية عنه القران.
وسبب ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا، فـ ابن عباس يرى التمتع ويلزم الحاج به، حتى إنه يقول: من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فقد حل شاء أم أبى، فهو يوجب التمتع، حتى على من أحرم مفرداً، ويسمى هذا فسخ الحج إلى العمرة، واختلفوا في حكمه: هل يجوز إذا أحرم بحج أن يفسخه ويجعله عمرة؟ في ذلك خلاف كبير، وسبب ذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر سبعة عشر صحابياً بالتحلل وقد كانوا مفردين، حيث لم يكن معهم هدي، وامتنع الذين معهم الهدي أن يتحللوا، فلذلك رجح بعض العلماء الفسخ، بل بعضهم يلزم به، ومنهم ابن القيم في زاد المعاد، فإنه لما ساق الأحاديث التي في الأمر بالفسخ قال: ليس لأحد عذر في تركها؛ فإنها صريحة في الأمر بالفسخ، ومع ذلك فالمسألة محتملة للأقوال، وذلك لأن أكابر الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان كانوا يلزمون الناس بالإفراد، وكان عمر ينهى عن التمتع، ويأمرهم بأن يعتمروا في سفر مستقل؛ خوفاً من تعطل الحرم من الطائفين، هكذا اعتذروا عنه؛ فإنه لا يخفى عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يتحللوا، ولكن مع ذلك يقول: إذا أمرناهم بالعمرة في هذا السفر سافروا سفراً واحداً، وقضوا فيه حجاً وعمرة، واكتفوا بهذا السفر عن سفر آخر للعمرة، وتعطل البيت بقية السنة، فإذا منعوا فإنهم يقتصرون على الحج في سفرتهم، ويأتي بعضهم في شهر صفر للعمرة، وبعضهم في شهر ربيع، وبعضهم في جمادى، وبعضهم في رجب، وبعضهم في رمضان، فيبقى البيت الحرام معموراً بالزوار، هذا عذره.
ولكن إذا ثبت الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مقدم على قول كل أحد، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن من أتى البيت فطاف به وسعى فقد حل، ولو لم ينوِ التحلل، فاحتجوا عليه بأن أبا بكر وعمر ينهون عن التمتع، وينهون عن العمرة مع الحج، فاشتهر عنه أنه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!) بمعنى: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على قول كل أحد.
وهناك خلافات أخرى في كثير من المناسك، ولكن إذا اتضح الدليل فالمسلم يتبع الدليل مع من كان، ولا يتعصب لمذهب من المذاهب.