وأما مبيتهم بمنى ليلة عرفة فقد اختلف في حكمه، والصحيح أنه مستحب ومؤكد، وذهب بعض العلماء إلى أنه ركن، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته باتوا بمنى ليلة عرفة، توجهوا إلى منى كلهم من الأبطح، ونزل بمنى كل الحجاج الذين معه، وأقاموا بمنى حتى طلعت الشمس في اليوم التاسع، ثم توجهوا إلى عرفة، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (خذوا عني مناسككم) يعلمهم ذلك دائماً.
ولا شك أن هذا دليل على أن أفعاله التي فعلها من مشاعر الحج، فلذلك قال بعض العلماء: إن المبيت بمنى من الأركان، ولا يتم الحج إلا به.
القول الثاني أنه من الواجبات التي تجبر بدم، فمن ترك المبيت بمنى يوم التروية وليلة عرفه فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً.
والقول الثالث أنه من السنن المؤكدة، والذين جعلوه من السنن -كما هو المشهور عند أحمد، حيث لم يذكر في الأركان ولا في الواجبات- كأنهم استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، واستدلوا -أيضاً- بحديث عروة بن مضرس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه -يعني: بمزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) ، وهو حديث مشهور صحيح، لكن لعله عندما لم يذكر المبيت بمنى أراد أن هذا شيء معهود ومعروف مشهور، ومع آكديته والخلاف فيه نرى كثيراً يتساهلون بهذه الليلة أو بهذا اليوم -يوم الثامن- وبالأخص المطوفون، نشاهد أنهم يأخذون حجاجهم من مساكنهم لمكة في اليوم الثامن، ويتوجهون بهم إلى عرفة، ويستقرون بعرفة اليوم الثامن وليلة التاسع واليوم التاسع إلى أن تغرب الشمس في اليوم التاسع، ثم يذهبون بهم إلى منى، وهذا تساهل، أي: ترك هذا الركن أو هذا الواجب أو هذه السنة المؤكدة التي هي الإقامة بمنى في ذلك اليوم، فننتبه إلى أنه من آكد السنن -إذا قلنا: إنه سنة- أو أنه من الواجبات.
فمنى يقيمون فيها وهم محرمون، والأعمال في ذلك اليوم هي أعمال المحرمين، فيكثرون من التلبية؛ لأنهم محرمون بالحج، وكذلك يصلون فيها الرباعية قصراً ركعتين؛ لأنهم على أهبة السفر، ولا يجمعون، بل يصلون كل صلاة في وقتها، ويأتون بما أمروا به من شعائر الحج، فمن ذلك التلبية بعد كل صلاة، فعندما ينتهون من أية صلاة يرفعون أصواتهم بالتلبية، ومن ذلك -أيضاً- كثرة الذكر والدعاء؛ لأنهم قد تلبسوا بهذا الإحرام الذي هو عمل من أعمالهم الذي جاؤوا به، فلذلك يكثرون من التلبية والدعاء والذكر.