شروط الوضوء تسعة: من شرطه الإسلام، فلا يصح الوضوء من كافر، والعقل فلا يصح من فاقده، والتمييز فلا يصح من الصغير الذي لا يميز إلى آخرها.
وفروضه ستة: يعني: بالتتبع وجد أنها لا تخرج عن ستة، والمراد: اللازمات والواجبات فيه، وكأنهم بهذا فرقوا بين الفرض والواجب، والجمهور على أنه لا فرق بينهما.
فهاهنا جعلوا هذه هي الفروض وجعلوا الواجب هو التسمية، والفرق بينهما: أن الواجبات تسقط سهواً وجهلاً، وأما الفروض فلا تسقط سهواً ولا جهلا.
والذين فرقوا بينهما كالحنفية قالوا: الفرض آكد، وهو: ما ثبت بدليل قطعي، والواجب: ما ثبت بدليل ظني، ولعل هذا اصطلاح خاص بالأحناف، وإلا فالفرض والواجب تعريف كل منهما واحد، فالواجب هو: ما يثاب فاعله احتساباً ويعاقب تاركه تهاوناً، فيدخل في ذلك الفروض، فإنه يثاب من فعلها تقرباً إلى الله تعالى، ويعاقب من تركها عصياناً وتهاوناً بها، فيعم الفروض والواجبات.
قوله: (وفروض الوضوء ستة: غسل الوجه مع مضمضمة واستنشاق) الوجه: ما تحصل به المواجهة، يعني: المقابلة فلا يدخل فيه الرأس الذي هو منبت الشعر؛ لأنه غالباً يستر بالعمامة والقلنسوة، ولا تدخل فيه الأذنان، فالغالب أنها تستر بالعمامة ونحوها، وتدخل فيه اللحية والعارضان؛ لأنها تحصل بهما المقابلة والمواجهة، فعلى هذا يلزم غسل الشعر كما سيأتي.
والمضمضة والاستنشاق ألحقا بالوجه، والجمهور على أنه واجب أن يتمضمض ويستنشق.
والمضمضة: تحريك الماء في الفم، والاستنشاق: اجتذاب الماء إلى الأنف بقوة النفس، والحكمة تنظيف الفم؛ لأنه قد يكون فيه شيء من الوسخ بعد الأكل وطول الصمت ونحو ذلك؛ ولذلك شرع تنظيفه بالسواك، وكذلك تنظيف الأنف -يعني: المنخرين- لأنهما قد يتحلل منهما شيء من الرأس من المخاط ونحوه، فشرع تنظيفه معه، حتى يأتي الإنسان إلى الصلاة نظيفاً بقدر ما يستطيع.
واستدل على الوجوب بقوله في الحديث: (إذا توضأت فمضمض) وفي حديث آخر: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، واستدل بأن الوجه يدخل فيه ما يلحق به كالعينين، فالمنخران تابعان له، ويلزم غسل داخلهما بقدر الاستطاعة، والفم أيضاً داخل، فيجعلونه في حكم الظاهر؛ لأنه إذا وضع في فمه ماءً وهو صائم ثم مجه لم يفطر، فدل على أن حكمه حكم الظاهر، ولو وضع في فمه جرعة خمر ثم مجها ما حُد لذلك، ولو أن الصبي الذي في سن الرضاع صب في فمه لبن المرأة ثم مجه لم يعد ابناً لها، فدل على أنه في حكم الظاهر، فيلزم تنظيفه.
وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: إنه في حكم الباطن؛ لأنه لا تحصل به المواجهة، فداخل الفم وداخل الأنف لا تحصل بهما المواجهة، فالأنف يستره المنخران، والفم تستره الشفتان، وبكل حال ثبت الفعل الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه أنه كان لا يترك المضمضة والاستنشاق، وكان هذا مبيناً للآية الكريمة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] .
وغسل اليدين وغسل الرجلين فرضان بلا خلاف، وحد اليدين إلى المرفقين، والصحيح: دخول المرفقين في اليدين، وتكون إلى في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] أي: مع المرافق، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ يدير الماء إلى أعلى مرفقيه من جوانبه، مما يدل على أنه يدخل المرفق في الغسل، وكذا الكعبين يغسلهما مع القدمين، والكعب هو: العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وفي كل قدم كعبان من الجانبين، وينتهي الكعب بمستدق الساق، فنهاية الكعب وعروقه وما يغسل منه هو مستدق الساق، فيكون الغسل إلى ذلك المكان.
ومن الواجبات مسح الرأس مع الأذنين، والرأس هو: ما ينبت فيه الشعر غالباً، يعني: منابت الشعر المعتاد من نهاية الجبين إلى القفا، ورد مسحه مبتدئاً بالناصية لحديث عبد الله بن زيد: (أنه صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، فأقبل بهما وأدبر) والواو هاهنا ليست للترتيب، ولكنها لمطلق الجمع، ثم فسر ذلك بقوله: (بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) هذه هي صفة المسح.
فيمررهما على الشعر إذا كان الشعر مسدولاً، أو معقوصاً، أو جعداً؛ لأن المرور يعم جميع الرأس.
واختلف في مسح الأذنين، هل يجوز مسحهما ببقية بلل الرأس أو يأخذ لهما ماءً جديداً؟ ورد في الحديث أنه: (أخذ لأذنيه ماءً جديداً) ، والصحيح: أنه أخذ الماء الجديد لرأسه، (فمسح رأسه بماء غير فضل يديه) ، هكذا ذكر في (بلوغ المرام) .
وصفة مسح الأذنين: إدخال السبابتين في صماخ الأذن، يعني: في خرقها، ومسح ظهور الأذنين بالإبهامين، يعني: يمرر الإبهامين عليها، وأما غضاريف الأذن فلا تمسح، لما في ذلك من مشقة.
وقد ورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الأذنان من الرأس) وهو صريح بأنهما يمسحان، وفي ذلك أحاديث مشهورة مروية عن عدة من الصحابة.
والسنة دلت على تعميم جميع رأسه بالمسح من أدناه إلى أقصاه، وخالف في ذلك الشافعية، فقالوا: يجزئ أن يمسح ولو بعض شعره، وهذا خلاف النصوص، فإن الوارد أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمم رأسه بالمسح، ولم ينقل أنه كان يقتصر على بعضه.
وذهبت الحنفية إلى أنه يكفي ربع الرأس، واستدلوا بحديث المغيرة: (أنه صلى الله عليه وسلم مسح ناصيته) وأجاب عن ذلك ابن كثير في التفسير بأنه مسح ناصيته؛ لأنها ظاهرة، وكمل المسح على العمامة، فإن في الحديث: (مسح ناصيته وعلى العمامة والخفين) ولم يقل: إنه اقتصر على مسح بعض الرأس، فمسح جميع الرأس هو فرض، ولا يجزئ بعضه، وهذا هو الأصل.
ومن الفروض أيضاً الترتيب، فالترتيب يكون على ما في الآية، فيبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم بالرأس، ثم يختم بالرجلين، والرجلان مغسولتان، كما أن اليدين مغسولتان، وعليه أن يتأكد من غسل رجليه؛ فقد ورد في الحديث: (ويل للأعقاب من النار) والأعقاب هي: مؤخر الأقدام، وذلك لأن الذي يتوضأ سريعاً قد يكون من سرعته أنه لا يتعهد مؤخر القدم، فيبقى فيه بقعة أو بياض، فأمر بأن يتعهد ذلك ويدلكه.
ومذهب الرافضة مسح الرجلين، وهو خلاف السنة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم مسحهما، بل كان يغسلهما، والسنة مبينة للقرآن.
فالترتيب يبدأه بوجهه، ثم بيده، ثم برأسه، ثم برجليه، فلو غسل يديه قبل وجهه لزمه إعادة غسلهما بعد الوجه، ولو غسل رجليه قبل أن يمسح رأسه لزمه غسلهما آخر وضوئه، ولو مسح رأسه قبل غسل يديه، لزمه أن يمسح رأسه بعد اليدين، حتى يكون وضوءه على ما ورد في الآية: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] فيتوضأ على هذا الترتيب، ويبدأ بما بدأ الله به، كما في الحديث.
والموالاة أيضاً فرض، والموالاة هي: أن يواليها ويسرع فيها، بأن يغسل كل عضو عقب الآخر ولا يتوقف، فإذا انتهى من غسل الوجه بدأ في غسل اليدين، ثم بعد اليدين يبدأ بمسح الرأس، وبعد الرأس يبدأ مباشرة في غسل الرجلين، فلو غسل وجهه ويديه ثم توقف ساعة أو نصف ساعة أو ربع ساعة ثم كمل لم يصح وضوءه؛ لأن الوضوء طهارة وعبادة، ولابد أن تكون متوالية في وقت واحد، ولا يصح أن يفرقها.
وحددوا ذلك: بألا ييبس عضو قبل غسل ما بعده، فلو يبس الوجه قبل غسل يديه أعاد غسل الوجه، إلا إذا كان هناك -مثلاً- ريح شديدة، أو حر وسموم، فإنه قد ييبس الوجه بسرعة، ولكن المراد الوضوء المعتاد.
وهناك بعض الموسوسين يبقى أحدهم في الوضوء ساعة أو ساعتين، ولا شك أن هذا من الشيطان، بحيث إنه يبقى يدلك يديه نصف ساعة، ويخيل إليه أنهما لم يبتلا، ويرجع يغسل رجليه ويدلكهما ساعة أو نصف ساعة على هذه الحال، ويعتبر أنه لم يتوضأ وضوءاً متوالياً، فعليه في هذه الحال إذا كان يشق عليه أن يتوضأ بسرعة في نحو دقيقة أن يعيد الوضوء متوالياً.
ومن فروض الوضوء: النية، وهي شرط لكل طهارة شرعية، والنية هي: عزم القلب على الفعل، بأن ينوي بقلبه أن يعمل فعلاً من العبادات الشرعية، فالطهارة، والوضوء، والغسل، والتيمم، تسمى كل هذه طهارات شرعية، فلابد لها من النية، فلو أن إنساناً غسل وجهه لإزالة نعاس أو نحو ذلك، ثم غسل يديه لنظافتهما ولم ينو الوضوء في ذلك ثم قال: سأكمل الوضوء، فمسح برأسه وغسل رجليه فنقول: يلزمه أن يعيد غسل وجهه ويديه؛ لأنه غسلهما بدون نية رفع الحدث، وإنما بنية رفع النعاس أو بنية النظافة أو ما أشبه ذلك.
وكذلك إذا اغتسل للتنظيف ولم يغتسل لرفع الجنابة، فإنه لا يرتفع حدثه.
والحاصل: أن النية شرط للطهارة كالوضوء والغسل والتيمم.
أما إزالة النجاسة فلا يشترط لها النية، فلو كان لك ثوب نجس ثم أصابه المطر وغمره طهر، أو وقع في سيل فغمره طهر، أو كان في نعله نجاسة فخاض بها في سيل أو في نهر بدون نية طهر.
وكذلك مما لا يشترط له النية غسل الكتابية، وكذا المسلمة الممتنعة لحل وطء، فإذا طهرت الحائض لا يحل وطؤها إلا بعد الغسل، فإذا امتنعت المسلمة أجبرها زوجها على الاغتسال، فغسلها مجبرة بدون نية يبيح الوطء، ولكنه لا يرفع حدثها، ولا يباح لها الصلاة بذلك، وكذلك إجبار الكتابية.
قوله: (والتسمية واجبة في وضوء وغسل وتيمم وغسل يدي قائم من نوم بليل) فالتسمية هي: قول: (باسم الله) ، وقد ورد فيها حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) وهذا الحديث روي من عدة طرق عن عدة من الصحابة، ولكن طرقه ضعيفة لا تبلغ درجة الصحة، وروي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يصح في هذا الباب شيء، ولكن يقولون: بمجموع تلك الطرق يتقوى، ويكون دليلاً على الوجوب، فيسمى قبل غسل اليدين، فإذا أراد أن يغسل يديه فإنه يقول: باسم الله، ثم يغسل يديه، ثم يتمضمض، ثم يكمل الوضوء.
وكذلك عند الاغتسال إذا أراد أن يغتسل قبل الوضوء يبدأ بالبسملة ثم يكمل.
وكذلك التيمم، فعندما يتيمم بالتراب يقول: باسم الله.
وهكذا من قام من نوم ليل نوماً مستغرقاً ناقضاً لوض