عرف المؤلف القسامة بقوله: [أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] .
هذه القسامة التي يحلفون فيها خمسين يميناً، لها شروط: أولاً: أن يوجد قتيل مسلم أو ذمي.
الثاني: أن لا يعرف قاتله.
الثالث: أن يتهم به قبيلة أو يتهم به أهل قرية.
الرابع: أن يكون هناك قرائن تدل على التهمة، كعداوات فيما بينهم، ومشاحنات وخصومات فيما بينهم، فتقوى التهمة أنهم الذين قتلوا هذا القتيل وليس هناك بينة.
قال: [وإذا أتمت شروطها بدئ بأيمان ذكور عصبته الوارثين، فيحلفون خمسين يميناً كل بقدر إرثه، ويجبر الكسر، فإن نكلوا أو كان الكل نساء حلفها مدعى عليه وبرئ] .
عرفنا هذه الشروط، فالشرط الأول: أن يحصل القتل الذي هو إراقة الدم.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً أو ذمياً معصوماً، ليس حربياً ونحوه.
الشرط الثالث: أن يكون لا يعلم قاتله.
الشرط الرابع: أن تقوى التهمة التي بينهم وبين هؤلاء المتهمين.
ففي قصة عبد الله بن سهل الأنصاري الذي قتل في خيبر أنه جاء إليه محيصة فوجده يتشحط بدمه، فقال: أنتم قتلتموه أيها اليهود، فقالوا: ما قتلناه.
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وعبد الرحمن بن سهل أخو عبد الله بن سهل الذي هو القتيل، فذكروا له القتيل، فقال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع برمته.
فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف عليه؟! فقال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: قوم كفار لا نقبل أيمانهم.
فدفع ديته من بيت المال) .
وهكذا قصة القرشي الذي استأجره بعض الأعراب راعياً، ولما فقد عقالاً واحداً من إبله قتله، رماه بفرسن بعير فأصابه فتردى ومات، وقبل أن يموت مر عليه رجل فأوصاه أن يخبر أبا طالب، فأخبر أبا طالب أن الذي قتله كفيله الذي استأجره، فأحضروا ذلك الكفيل وقالوا: أنت قتلته، فإما أن تعطينا مائة من الإبل وإما أن يحلف منكم خمسون.
فحلف منهم ثمانية وأربعون، يقول ابن عباس: فما دارت السنة وفيهم عين تطرف.
ولذلك يقولون: إن اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع.
أي: إذا تجرأوا وحلفوا وهم كاذبون لم يؤمن أن يسلط الله عليهم مصائب فيموتوا.
فالحاصل أنه إذا اتهمت قبيلة بأنهم قتلوا هذا الإنسان، وقامت القرائن، وعرف أن بينهم تهمة وأن بينهم عداوات وإحناً وبغضاء، وأن قرائن التهمة تقوي أنهم هم الذين قتلوه، فيجوز -والحال هذه- أن يحلف الوارثون، فيقولون: نحلف أن هؤلاء قتلوه، أو أن هذا وحده قتله.
فإذا حلفوا قتل الذي حلفوا عليه.
ويذكر المؤلف أن الوارثين هم العصبة الذكور، تقسم الخمسون يميناً عليهم، فإن كانوا اثنين حلف هذا خمساً وعشرين يميناً وهذا خمساً وعشرين يميناً، فإن كانوا ثلاثة حلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً حتى ينجبر الكسر.
وإذا كانوا -مثلاً- خمسة حلف كل واحد عشر مرات، وإن كانوا عشرة حلف كل واحد خمسة أيمان حتى تتم خمسين يميناً، فإذا حلفوا على شخص معين أن هذا هو عين القاتل ثبت عليه القتل فيقتل، إلا أن يطلبوا الدية أو يعفو الأولياء.
والحالف هم الذكور، فلا تحلف الإناث، والذكور الحالفون هم العصبة، فلا يحلف ذوو الأرحام مثلاً أو الزوج ونحوهم، ولا بد أن يكونوا وارثين للدم كأولاد الميت أو إخوته الذين يرثونه أو أبوه، وإخوته إذا كانوا يشتركون في الميراث، أي: الذين يرثون، كل بقدر إرثه، فالذي يرث النصف يحلف نصف الخمسين، والذي يرث الثلث يحلف قدرها، فإن نكلوا وقالوا: لا نحلف، هذا غيب ونحن لا ندري، فلا نحلف ونحن لا ندري.
فنكلوا عن الحلف، أو كان الورثة كلهم نساء: لا يوجد إلا بناته وزوجاته وأخواته، ولم يكن له ورثة ذكور؛ رجعت اليمين على أولياء الجاني، أو على الجاني نفسه، فيحلف الجاني المتهم: إنني بريء، وإنني ما قتلته ولا أعلم قاتله.
وإذا حلف برئ، ولم يكن لهم شيء عليه.
والله أعلم.