فالحاصل أن النفقة على ذوي القرابة إنما تجب إذا كان وارثاً، استدلوا بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233] ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] (على الوارث مثل ذلك) أي: مثل ما على المولود له، الذي عليه النفقة.
الذي ترثه مثلاً بالفرض كالأخ من الأم، إذا افتقر وأنت من جملة الذين يرثونه، فإنك تنفق عليه، فإنه إذا مات لا ترث منه إلا السدس، ولكن أنت من جملة الورثة، فإن كان له أولاد ذكور أو إناث حجبوك، فلا يلزمك أن تنفق عليه؛ لأنك لست بوارث.
وكذلك مثلاً: الأم ترث ولدها، ولا ترث منه إلا السدس إذا كان له أولاد، أو له جمع من الإخوة، فإذا افتقر ولدها أنفقت عليه؛ وذلك لأنها ترثه لأنه من الفروع؛ ولأنها أحد الأبوين.
أما بالنسبة إلى الذين يرثون بفرض فكالأخت، فإنها إذا مات أخوها ترث منه النصف فرضاً، فإذا افتقر أخوها وهي غنية فعليها أن تنفق عليه؛ لأنها من جملة ورثته.
وإذا كانت لا ترث منه إلا شيئاً يسيراً، كأن كان له بنتان ترثان الثلثين، وله زوجة، وله أم، وله أخت شقيقة غنية، هو فقير، وبنتاه كذلك، وأمه فقيرة، وزوجته فقيرة، وأخته غنية، أخته ترث منه بالتعصيب، ولكن إنما ترث واحداً من أربعة وعشرين سهماً، في هذه الحال عليها أن تنفق عليه إذا افتقر، ولو كانت لا ترث منه إلا شيئاً يسيراً.
فالحاصل: أن كل من ترث منه بفرض أو تعصيب إذا افتقر من أقاربك كإخوة وأخوات وعم وأعمام وبني عم وبني أخ وبنات أخ ونحو ذلك، فإنك تنفق عليهم؛ لأنك من جملة الورثة.
أما إذا كنت ترثه بالرحم فالميراث بالرحم فيه خلاف، فلذلك لا يلزمك الإنفاق عليه، كالخال وابن الأخت، فإذا افتقر ابن أختك وأنت خاله لم تلزمك النفقة عليه؛ لأن الميراث ليس متفقاً عليه، وكذلك إذا افتقر خالك أو خالتك أو ابن خالك لا يلزمك النفقة عليهم؛ لأنك لا ترثهم.
أما عمودي النسب الأصول والفروع فإنهم بلا شك يتوارثون، والنفقة تجب عليك ولو كنت غير وارث، كأن كنت محجوباً بمن هو أقرب منك، فيستثنى عمودا النسب.
الشرط: أن يكون ذلك الذي تنفق عليه فقيراً، أي: ليس عنده القوت الضروري.
وشرط آخر: عجزه عن التكسب، فإذا كان ابن عمك الذي ترثه قوياً، وصحيح البدن، وعاقلاً، وفارغاً، تأمره وتقول: تكسب، اشتغل يا ابن عمي، لا تكن عالة علي وعلى الناس، أنت تقدر على أن تشتغل وتتكسب وتحترف، فالحرف كثيرة، فهذا لا تجب النفقة عليه، أما إذا كان عاجزاً لمرض أو عاهة أو إعاقة أو كبر سن، ففي هذه الحال تجب نفقته على أقاربه الذين هم أغنياء وبينهم توارث.
متى تجب عليك نفقتهم؟ إذا فضل عن قوتك ما يقوتهم، أي: إذا كانت نفقتهم فاضلة عن قوت نفسك، وعن قوت زوجتك ورقيقك المملوك يومك وليلتك، قياساً على زكاة الفطر، وقد تقدم في زكاة الفطر أنك تبدأ بنفسك، ثم بعد ذلك بزوجتك، ثم برقيقك، ثم بعد ذلك بأبويك وأولادك، ثم بعد ذلك بأقاربك الذين هم فقراء كإخوة وأخوات وأعمام وعمات ونحوهم، فيكون ترتيبهم في هذا على ترتيب الميراث.
إذا قلت مثلاً: أنا ما عندي إلا قوت إنسان زائد على قوتي وقوت عيالي، فمن أعطيه؟ ف
صلى الله عليه وسلم تعطيه الوالدة، فإن كان عندك قوت اثنين زائداً على قوت نفسك، وعلى قوت من تحت يدك من أولادك ونحوهم أعطيته الأبوين، إذا كان عندك قوت ثلاثة فأعطه أخاك الشقيق أو أختك، وهكذا كالفطرة.
إذا لم يكن عندك شيء زائد إلا رأس مالك الذي تتجر به، كأن تقول: رأس مالي ألف، أشتري به كل يوم بضاعة وأبيعها وأربح فيها ثلاثين ريالاً، أقوت بها نفسي وأولادي، فهل نلزمك أن تعطيه من الألف الذي هو رأس مالك الذي تتجر به؟ لا يلزمك؛ لأنه إذا نزعنا منه كل يوم ثلاثين، بقيت بدون رأس مال، فحينئذ تتضرر، ويتضرر من تحت يدك؛ لأنك تتجر في هذا المقدار من المال، فلا يؤخذ من رأس المال.
إذا لم يكن عندك إلا بيتك فهل يلزمك نفقة أقاربك؛ فيقولون: بع البيت وأنفق علينا، فإننا بحاجة؟ أو عندك سيارتك التي تتنقل عليها، فهل يلزمك الشرع أن تبيع سيارتك وتنفق على أعمامك، وعلى أولاد أعمامك، وعلى أجدادك، وعلى أولاد بناتك؟ لا يلزمونك بذلك؛ لأن في هذا ضرراً عليك.
فإذا لم يكن عندك إلا آلة الصنعة فلا يلزمك أن تبيعها لأنك تعمل بها، فمثلاً: الحداد عنده آلة الحدادة، لا يلزمه أن يبيعها، النجار عنده آلة النجارة، والحلاق عنده آلة الحلاقة، والحجام عنده آلة الحجامة، والبناء عنده آلة البناء وأشباه ذلك، فلا يلزمه القاضي أن يبيع آلة صنعته لأجل الإنفاق على أقاربه، بل يكون فقيراً كما أن أولئك الذين معه يعتبرون فقراء.