السادسة والأخيرة من المعتدات: امرأة المفقود، وهو الذي غاب ولم يعلم خبره، ولم تعلم حياته ولا موته، في هذه الحال تتربص ولو كانت أمة أربع سنين، إذا انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك، أي: إذا كان يغلب على الظن الموت.
وذكروا أمثلة -كما تقدم في الفرائض- بمن فُقد في معركة حصلت بين المسلمين والكفار، فما وجد مع الأحياء، ولا وجد مع الأموات، ولا وجد مع الأسرى، ولا يدرى هل هو حي أم ميت، ولكن الغالب أنه قد مات، فيمكن أنه في مكان خفي قتل في هذه المعركة، فلا يقسم ماله إلا بعد أربع سنين من هذه المعركة، ولا تتزوج امرأته ولا تعتد إلا بعد أربع سنين.
وهكذا لو خرج في الليل من أهله ولم يدر أين هو، وانقطع خبره، قد يقال: إنه اختطف، وقد يقال: إنه اغتيل، خرج في الليل على أنه يعود بعد ساعة وانقطع خبره، فتتربص مدة أربع سنين، يمكن أنه يعود، ولكن الغالب أنه مات.
وقد وقعت قصة في عهد عمر رضي الله عنه أن رجلاً خرج من أهله ليلاً ولم يرجع، فانتظرته امرأته، فبعد أربع سنين وقد تزوجت زوجته جاء إلى أهله، فسألوه: أين كنت؟ فقال: استهوتني الجن -أي: اختطفتني- فكنت عندهم كأسير، ثم إنه غزاهم جن مسلمون وتغلبوا عليهم، ووجدوني في الأسرى فقالوا: أنت مسلم، لا يحل لنا إمساكك، فإن شئت أن تبقى معنا، وإن شئت أن نردك إلى أهلك.
فقلت: ردوني، فأصبحت في طرف المدينة.
فخيره عمر بين زوجته وبين ماله، فاختار ماله، والزوجة قد تزوجت.
هذه القصة ذكرها صاحب "منار السبيل في شرح الدليل".
أما إذا كان الغالب عليه السلامة فإن امرأته تتربص تمام تسعين سنة منذ ولد، ينظر كم عمره عندما فقد، فإذا كان عمره خمسين سنة فلا يقسم ماله، ولا تتزوج امرأته إلا بعد أربعين سنة حتى تتم التسعون، فتتزوج امرأته بعد إحداد.
وكذلك لو فُقد وعمره ثمانون تتربص عشر سنوات.
ولو فُقد وعمره عشرون سنة، فعلى كلامهم أنها تنتظر سبعين سنة، ولا شك أن في هذا ضرراً عليها، فلا تتزوج ولا تقسم تركته؛ لأجل ذلك قالوا: إن الحاكم له الاجتهاد، كما لو فقد وعمره تسعون فللحاكم أن يجتهد، والغالب في هذه الأزمنة العثور عليه، وذلك بفضل المواصلات، ولوجود الهواتف والإذاعات ونحوها، وإمكان البحث عنه والتنقيب، ومعرفة أين هو، ولو كان قد يخفي نفسه.