نحمد الله ونشكره، ونثني عليه ونستغفره، ونسأله المزيد من فضله، ونسأله أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يبصرنا بأمور ديننا، وأن يهدينا سواء السبيل.
نذكركم أنكم -والحمد لله- تعملون عملاً صالحاً في مثل هذه الدورات؛ وذلك لأن مواصلة التعلم والحرص على التلقي عمل بر، عمل صالح يهدي به الله تعالى من أراد به خيراً؛ تكتب به الحسنات، وترفع به الدرجات، ويكتب الله أهله في حملة العلم الذين يحبهم ويحبونه، فهنيئاً للذين يواصلون أوقاتهم بعضها ببعض حتى يستفيدوا من حياتهم في هذه الإجازة التي يتوقف فيها الكثير من الناس عن الدراسة النظامية، والإجازة تضيع على كثير من الناس، بحيث إنهم إما يضيعونها في لهو وسهو وجلوس وتسكع في الأسواق وعمل غير مرضي، أو يضيعونها في رحلات وأسفار لا أهمية لها ولا يستفيدون منها فائدة تعود عليهم بالخير، أو يضيعونها في أمور دنيوية، أو لو استفادوا من أمور الدنيا لكن يفوتهم الخير الكثير؛ وذلك لأن هذه الأيام لابد أن يحاسب عليها العبد، فمن صنع جزءاً من عمره في غير فائدة فإنه يحاسب، وفي الحديث: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) .
فالسؤال عن العمر هو أولها، يعني: سواء كان كهلاً أو شاباً أو شيخاً، يسأل عن عمره في أي شيءٍ شغله، ويسأل أيضاً عن شبابه في أي شيءٍ شغله وصرفه، فإذا كان قد صرفه في خير أجاب بجواب نافع مفيد، وأما إذا صرفه في اللهو والسهو فإنه يكون في ذلك متحسراً ولا يجد جواباً.
ومن أفضل ما يصرف الشاب أيامه وأشهره فيه التعلم، سيما تعلم العلوم الشرعية، فإنها مفيدة للإنسان في حياته، والعلوم الشرعية يحبها الله تعالى، وتبصر الإنسان في حياته، ويكون بها عالماً كيف يعمل؛ وذلك لأن علمه له نتيجة وله ثمرة.
ونحن نحسن الظن بإخواننا الذين توافدوا من بلاد بعيدة إلى هذه الدورة، ونقول لهم: هنيئاً لكم أن تجشمتم المشقات، وجئتم من بلاد بعيدة، وقصدكم بذلك أن تستفيدوا من حياتكم، وأن تعملوا عملاً صالحاً يرفعكم الله تعالى به درجات، ويجزل لكم به الثواب العظيم، فهذا فضل الله تعالى ونعمته عليكم، فلكم بذلك فضل كبير، ونوصيكم أولاً بحسن النية؛ لأن النية إذا كانت حسنة صالحة وفق الله العبد للعمل الصالح، فانو بهذا التعلم رفع الجهل؛ فإن الإنسان خلق جاهلاً كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ، فالإنسان خلق جاهلاً، والجهل نقص، فيزول هذا النقص بالتعلم، حيث أعطانا الله السمع والبصر واللسان والفؤاد وهي من وسائل التعلم، فمن حسن النية أن تنوي رفع الجهل.
ومن حسن النية أن تنوي حمل العلم الذي حمله شرف وحمله فضيلة.
ومن حسن النية أن تنوي العمل بهذا العلم؛ حتى تعمل على بصيرة، وعلى نور وبرهان.
ومن حسن النية أن تنوي نفع نفسك؛ حيث تعمل بالعلم ويقبله الله منك، وتثاب على هذا العلم الذي تعلمته.
ومن حسن النية أن تنوي ميراث الأنبياء، بأن تكون من ورثة علمهم الذين ورثوه، ومن أخذه أخذ بحظ وافر.
ومن حسن النية أن تنوي نفع الناس الجهلة الذين يحتاجون إليك وإلى أمثالك، وهم كثيرون في البلاد، فقد يتعلم فرد العلم الشرعي، ويرجع إلى بلدة يغمرها الجهل، ويكثر الجهل في أهلها، فلذلك إذا تعلم وفقه الله تعالى وعلّم أهل بلده، واستفاد واستفادوا منه ونفعهم، وكان له أجر كبير على تعلمه؛ حيث إنه يبث ما معه من العلم، ويفقه الأمة ويدعوهم إلى الله: (ومن دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء) ، وفي الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) .
ونوصيك أيضاً بمواصلة التعلم؛ فإن العلم كثير ليس له نهاية، وهذه المدة التي تتعلمها في هذه الدورة قليلة بالنسبة إلى بقية الحياة، لا تنال فيها إلا جزءاً يسيراً من العلم، وأنت تعرف أن هذه العلوم تعتبر مبادئ، وأن كل علم له فروع وله شروحات، فإذا انتهيت من هذه الدورة فعليك المواصلة بقراءة الشروح والتعاليق والحواشي، والحرص على استظهارها، وعلى تذكر معانيها حتى تبقى هذه المعلومات، وعليك التزود فيما بعد إلى نهاية الحياة، وتذكر وصية بعض العلماء الذي يقول: اطلب العلم من المهد إلى اللحد؛ يعني إلى الموت، وما ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: مع المحبرة إلى المقبرة، أي: نحمل المحبرة التي هي الدواة نكتب من مدادها الفوائد، ولا نفارقها إلا إذا متنا: مع المحبرة إلى المقبرة، وأشباه ذلك.
فكل هذا دليل على أنه لا بد من مواصلة التعلم، وأن الإنسان مهما بلغ من العلم، فإن علمه قليل.
وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته لو عمرت مائة سنة ما وصلت إلى عشر العلوم، ولكن الله تعالى جعل بعض العلوم فريضة يلزم تعلمها والعمل بها، وجعل البقية نافلة إذا تعلمها كان من حملة العلم الذي قد يحتاج إليه.
والعلوم منها: ما هو فرض عين: وهي الأشياء التي كلف بها العبد أن يعمل بها، ومنها ما هو فرض كفاية: وهي العلوم التي يلزم الأمة أن يتعلموها ويحملوها.
موضوعنا هذا هو موضوع الفقه في الدين، الذي هو تعلم الأحكام؛ وذلك لأن العلماء رحمهم الله لما قرءوا النصوص من الكتاب والسنة؛ استخرجوا منها الأحكام، وجعلوها في هذه الكتب، وسموها: الفقه؛ الذي هو الفهم، واستنباط الأحكام من الأدلة، وذكر كل مسألة قد يحتاج إليها؛ فدونوها في هذه الكتب وسموها: كتب الفقه.
وتعرفون ما فيها من الخلاف بين العلماء المجتهدين، حيث إن هناك أقوالاً للأحناف الذين هم على مذهب أبي حنيفة، وخالفتها أقوال ومسائل لمن هم أتباع مالك، وخالفتها أيضاً أقوال لأتباع الشافعي، وخالفتها أقوال لأتباع الإمام أحمد بن حنبل، وهذا الاختلاف الذي وقع بينهم الأصل أنه بسبب الاجتهاد، وسبب اختلاف الآراء، وسبب اختلاف الأفهام، وقد يكون سببه أيضاً وقوع خلاف بين الأدلة، والمحققون يجدون جواباً على اختلاف الأدلة، فيجمعون بينها حتى لا يكون بينها اختلاف؛ وذلك لأن مصدرها واحد؛ لأنها إما من كتاب الله وإما من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالاختلاف الذي يكون بينها يمكن الجمع بينه، وإذا لم يمكن حرصوا على أن يجمعوا بينها بأية وسيلة، وقد مر بنا أمثلة لهذه المسائل التي وقع فيها خلاف.
نحن الآن في أواخر كتاب الأحكام من هذا الكتاب الذي هو: أخصر المختصرات، وهو من أخصر كتب الفقه، اختصره مؤلفه من زاد المستقنع، وزاد عليه بعض الجمل، ونقص منه كثيراً؛ فهو قد اختصره لمن يريد أن يحفظه والذي يفهمه يكون عنده علم بمجمل الأحكام الفقهية التي يحتاج إليها في هذه الحياة الدنيا.