وفي السنين المتأخرة كان المؤذنون في الحرم يجمعون التكبيرتين في نفس واحد، الذي حملهم على ذلك: الإسراع من غير دليل، ثم جاءت الإذاعة فصارت تنقل صوت مؤذني الحرم على هيئته: تكبيرتين بنفس.
فاعتقد الناس أن هذا هو السنة، وقلدهم كثير من المؤذنين، وصاروا يجمعون تكبيرتين في نفس، وهو خلاف الحديث وخلاف الحكمة التي لأجلها شرع الأذان، وهو مده ومد كل جملة مداً بليغاً حتى تطول مدته، وكنا نسمع بعض المؤذنين قديماً أنه يقيم في الأذان -قبل وجود المكبر- نحو خمس دقائق يمد صوته؛ حتى يسمعه الغافل؛ لأن هناك إنساناً منشغلاً وإنساناً غافلاً، فإذا طالت مدته سمع ولو جملة، فالسنة أن يمد كل تكبيرة مداً بليغاً بأقصى نفسه، ثم يقف بعدها ويسترجع النفس، ثم يمد التكبيرة الثانية بقدر أقصى نفسه، ثم يقف بعدها، وهكذا التكبيرات الأربع، وهكذا الشهادات.
المد يكون في حروف المد، في (الله) يمد اللام، وكذلك في الشهادة (أن لا إله إلا الله) يمد هذه الحروف بقدر ما يتسع له نفسه، هذا هو الأذان المعتاد.
فنرى أن جمع التكبيرتين في نفس واحد من الخطأ، ورأيت من تكلم في ذلك من العلماء، نقل عن ذلك عن النووي أنه أجاز جمع التكبيرتين، وكأنه حكى ذلك قولاً في الجواز، وقال: لأنهما من جنس واحد.
ثم تكلم على ذلك المباركفوري -شارح الترمذي تحفة الأخوذي- وكأنه يرى استحباب جمع التكبيرتين في نفس واحد، ولكن سبب ذلك أنه رأى هذا هو أذان أهل الحرم.
والحجاج إذا حجوا ورأوا تكبير الحرم اعتقدوا أن أهل الحرم هم أهل السنة وهم أهل الدليل، وأنهم أقرب إلى الصواب، وما علموا أن هؤلاء مقلدة حدث منهم هذا في عهد أخير.
وقد كنا قبل خمسين سنة في مكة، وكان يؤذن أربعة مؤذنين في زوايا الحرم، هذا مؤذن حنفي، وهذا مالكي، وهذا شافعي، وهذا حنبلي، والمؤذن الحنبلي هو الذي يرتب الأذان، والأخيرون كأنهم مشوا على طريقتهم هذه التي هي طريقة محدثة: جمع التكبيرتين، ثم أمروا بعد ذلك بأن يقتصروا على المؤذن الواحد؛ لأنه يحصل به الإعلام، مع أنهم أيضاً قبل ثمانين سنة أو نحوها -قبل الفتح- كان يصلى أربع جماعات في الحرم، كل أهل مذهب يصلون وحدهم، حتى جمعهم الله تعالى بعد استيلاء هذه الدولة المباركة.
فالحاصل أن المباركفوري كأنه استدل بالحديث الذي في صحيح مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر.
فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر.
ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله.
فقال: أشهد أن محمداً رسول الله.
ثم قال: حي على الصلاة.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: حي على الفلاح.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: الله أكبر الله أكبر فقال: الله أكبر الله أكبر) ، فاستدل به على جمع التكبيرتين، ورأيت أيضاً بعض الشباب الذين يؤذنون على هذه الكيفية يستدلون بهذا الحديث، والجواب أن نقول: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم بهذا؟! هل تأكدتم أنه ما سكت بين التكبيرتين؟ قد يكون سكت، قد يكون قال: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر.
فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، وأيضاً فإنه من باب تعليمهم ما يقولون، والدليل: أنه ما ذكر إلا تكبيرتين مع أنها أربع، فكأنه يريد جنس التكبيرات، فلا يكون في هذا الحديث دليل على أنه يجمع التكبيرتين، هذا هو الذي أختاره.