قال المصنف رحمه الله: [كتاب الوصايا: يسن لمن ترك مالاً كثيراً عرفاً الوصية بخمسه.
وتحرم ممن يرثه غير أحد الزوجين بأكثر من الثلث لأجنبي، أو لوارث بشيء.
وتصح موقوفة على الإجازة.
وتكره من فقير وارثه محتاج، فإن لم يف الثلث بالوصايا تحاصوا فيه كمسائل العول، وتخرج الواجبات من دين وحج وزكاة من رأس المال مطلقاً.
وتصح لعبده بمشاع كثلث، ويعتق منه بقدره، فإن فضل شيء أخذه، وبحمل ولحمل تحقق وجوده، لا لكنيسة وبيت نار وكتب التوراة والإنجيل ونحوها، وتصح بمجهول ومعدوم، وبما لا يقدر على تسليمه.
وما حدث بعد الوصية يدخل فيها، وتبطل بتلف معين وصى به.
وإن وصى بمثل نصيب وارث معين، فله مثله مضموماً إلى المسألة، وبمثل نصيب أحد ورثته له مثل ما لأقلهم، وبسهم له سدس، وبشيء أو حظ أو جزء يعطيه الوارث ما شاء] .
اختصر المؤلف الوصايا مع كونها كثيرة المسائل، وتوسع الفقهاء فيها، والغالب أن كلامهم فيها إنما هو فرض مسائل.
ذكر الله تعالى الوصية في القرآن، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180] ، وكان هذا قبل أن تنزل الفرائض، فكان أحدهم إذا حضره الموت قال: اقسموا مالي، فأعطوا الوالد كذا، وأعطوا الوالدة كذا، وأعطوا الزوجة كذا، وأعطوا الأخ كذا، وأعطوا الابن أو البنت كذا وكذا فكان هو الذي يقسمه، وكان الله أمر بذلك (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) ، ولما نزلت آيات المواريث نسخت إطلاق هذه الآية، وأصبحت الوصية لا تصح للورثة، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) فالوارث يكفيه نصيبه.
والذين يرثون بكل حال -كما سيأتينا في الفرائض- الأولاد ذكوراً وإناثاً، والأبوان (الأب والأم) ، والزوجة أو الزوج، فهؤلاء لا يصح أن يوصي لهم، وأما غيرهم فيصح أن يوصي له إلا إذا كان يرث، أو أوصى له وهو لا يرث، ولكن أصبح بعد ذلك وارثاً، كما لو أوصى لأخيه من الأب فقال: إذا مت فأعطوا أخي من الأب ألفاً أو عشرين ألفاً، وكان محجوباً بأخيه الشقيق، فمات الشقيق قبل الموصي، فأصبح الأخ من الأب وارثاً، فلا يعطى شيئاً من الوصية، ولا يوصى له؛ لأنه أصبح وارثاً.
وكذلك ما ذكرناه قريباً: فيما إذا أوصى لأخيه، وكان له ابن، فمات الابن قبل الموصي، أصبح الأخ وارثاً، فلا يصح أن يوصى له.
يقول المؤلف: (يسن لمن ترك مالاً كثيراً عرفاً الوصية بخمسه) : قول الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] المراد: ترك مالاً كثيراً فيه فضل على ورثته، وإلا فإن الأصل أن يجمع المال لورثته ليتوسعوا في ماله، هذا هو الأصل.
ومعلوم أن الورثة أحق بمال مورثهم، سيما إذا كانوا فقراء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، عالة: يعني فقراء، فإذا كان ماله قليلاً، وورثته ذوي حاجة وفقراء، فالصدقة تكون فيهم، فلا يستحب له أن يوصي لا بثلث ولا بأقل من الثلث؛ لأن إمساكه للمال لأجل توسعته على ورثته أفضل.
فإذا كان الورثة أغنياء وأثرياء، وسمحوا بزيادة على الثلث، فله أن يتصدق ولو بماله كله، فلو قدر أنه ليس له ورثة، لا أصحاب فروض ولا عصبات، ففي هذه الحال له أن يوصي بماله كله، لأن المال في هذه الحال سيدخل في بيت المال، فله أن يوصي أو يتصدق بماله كله، سواء في الحياة أو بعد الممات.
أما حكم الوصية فيستحبون أن يوصي بالخمس، فقد ذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: رضيت لنفسي ما رضي الله لنفسه، فأوصى بالخمس؛ وذلك اقتداءً بقول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] يعني: أن ظاهر الآية أن الله تعالى أمر بأخذ الخمس من الغنائم، فأوصى بالخمس، فهذا دليل استحباب الوصية بالخمس.
وروي عن ابن عباس أنه قال: وددت لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث؛ والثلث كثير) ، فصاروا يستحبون أن يوصي بالربع ولو كان عنده أموال طائلة.
ثم ذكروا أنه لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا بشيء لوارث؛ وذلك لأن الحق للورثة إذا كان له ورثة.
فلا يوصي بأكثر من الثلث؛ لقوله: (الثلث؛ والثلث كثير) إلا بإجازة الورثة، ولا يوصي لوارث بشيء ولو كان قليلاً، ولو كان الوارث محتاجاً، ويستثنى من ذلك إذا لم يكن له وارث إلا الزوجة، فإذا لم يرثه إلا زوجته، فله أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن الزوجة ستأخذ نصيبها كاملاً.