قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والهبة مستحبة، وتصح هبة مصحف, وكل ما يصح بيعه, وتنعقد بما يدل عليها عرفاً، وتلزم بقبض بإذن واهب، ومن أبرأ غريمه من دينه برئ ولو لم يقبل، ويجب تعديل في عطية وارث بأن يُعطي كلاًّ بقدر إرثه, فإن فضل سوى برجوع, وإن مات قبله ثبت تفضيله، ويحرم على واهب أن يرجع في هبته بعد قبض، وكره قبله.
وله أن يتملك بقبض مع قول أو نية من مال ولده غير سرية ما شاء ما لم يضره, أو ليعطيه لولد آخر، أو يكن بمرض موت أحدهما، أو يكن كافراً والابن مسلماً] .
الهبة مستحبة، وهي مشتقة من هبوب الريح، يقال: هبت الريح؛ وذلك لأن الريح خفيفة وهبوبها خفيف، ثم سميت الهبة بذلك لخفتها على مال الواهب.
ويعرِّفون الهبة بأنها: تمليك عين بلا عوض، وتسمى هبة التبرع أو التبرر، فإن صرف لها عوضاً سميت هبة الثواب؛ لأنه يطلب لها أجراً.
فإذا قال: وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني منه ثوباً أو كيساً، فإن هذه هبة ثواب، فهي من أنواع البيع، لها أحكام البيع، وشروط البيع: بأن يكون الواهب يملك ما وهب، وأن يكون مكلفاً، وأن تكون الهبة مالية، وأن يكون مقدوراً على تسليمها، وأن تكون معلومة إلى آخر شروط البيع.
فهذه هبة الثواب، وأما هبة التبرر وهو الذي لا يريد عليها عوضاً، وإنما يقصد بذلك التودد إلى الذي يهب له، ويقصد أن تحصل بينهما المودة والمحبة وصفاء القلوب، كما ورد في الحديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) ، والسخيمة هي الضغائن التي في القلوب، والأحقاد والبغضاء، والغالب أنك إذا أهديته شيئاً يفرح به، فإنه يعرف بذلك صداقتك، وإذا كان يكن لك شيئاً من الحقد فإنه يرجع إلى المودة فيحبك ويُقدرك، فهذا السبب في الحث على الهبة.
فالهبة هي التبرع بالمال بدون عوض في الحياة، وهي مستحبة، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) ، أي: تذهب وحر الصدر كما في رواية: (تسل السخيمة وتذهب وحر الصدر) ، أي: تزيل ما في الصدر من البغضاء بين الاثنين، وما بينهما ومن الأحقاد والضغائن، فإذا أهدى إليه عرف أنه يُحبه وأنه يود له الخير، فعند ذلك تثبت المودة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب عليها، وكان يأكل من الهدية ولا يأكل من الصدقات والزكوات ونحوها، ويقول: (إنها لا تحل لآل محمد) ، أما الهدية فإنه كان يقبلها ويثيب عليها.