هذا الباب يتعلق بإحياء الموات، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك المعصوم، وتسمى مواتاً؛ لأنها أرض ميتة ليست لأحد، فمن أحياها ملكها.
واختلف هل يشترط فيها إذن الإمام أو لا يشترط؟ فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة اشتراط إذن الإمام، وكذلك رواية عن أحمد، وفي هذه الأزمنة يترجح عدم الإحياء إلا بإذن الإمام، نظراً إلى كثرة من يغلب عليهم الهلع، وكذلك الاستكثار، فيأخذون ما ليسوا بحاجة إليه وأيضاً: قد يحصل فيها شقاق ونزاع إذا لم تكن بإذن الإمام؛ فلذلك العمل في هذه البلاد: على أن الإحياء يشترط فيه إذن الإمام.
قوله: (ومن أحيا أرضاً منفكة عن الاختصاصات) : هناك ما يسمى بالأرض المختصة، فإن البلاد بحاجة إلى مراعي وبحاجة إلى مرتفقات، فتسمى هذه خصائص البلد، فليس لأحد أن يحييها؛ لأنه يضر بأهل البلد، وكذلك أيضاً: الإنسان إذا بنى داراً كان بحاجة إلى الأرض التي أمام بيته، موقف مناخة، وملقى كناسته، أو موقف سيارة، فليس لأحد أن يضايقه، فتسمى هذه اختصاصات.
قوله: (ملك معصوم ملكها) : وكذلك: إذا لم يكن فيها ملك لمعصوم، والمعصوم: هو المسلم والذمي، فإذا كان فيها ملك لذمي ولو كان كافراً لم تملك بالإحياء؛ لأنه قد ملكها ذلك المعصوم وبالطريق الأولى إذا كان مسلماً، فلا يحل لأحد أن يحييها.
ثم اختلف أيضاً: في الإحياء في دار الحرب، فإذا كانت الأرض في دار حرب وليست في دار إسلام -يعني: أهل تلك البلد محاربون للمسلمين- فسبق إنسان وأحياها، إن قيل: إنه لا يملكها؛ وذلك لأنها لا تملك إلا بالاغتنام، أي: لا تملك إلا بأخذها غنيمة، فإذا لم تكن غنيمة فلا يحصل الإحياء.
والقول الثاني: أنه يملكها ولو كانت في أرض حرب، والعمل على أنه يملكها إذا أحياها إحياء شرعياً، ويكون ذلك من جملة ما يحوزه المسلم كغنيمة يأخذها من بلاد المحاربين.
وإذا قيل: بأي شيء يحصل الإحياء؟ يقال: في هذه البلاد يحصل ما يسمى بالمنح -أن يمنح الإنسان أرضاً- وقديماً كان يسمى (إقطاعاً) أن يقطع الإمام أرضاً لمن يحييها، كما في حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع وائل بن حجر أرضاً) .
يعني: قال له: هذه الأرض لك اغرس فيها واستغلها، فيكون هذا المقطع أحق بها، فإما أن يحييها، وإما أن يتحجرها، وإما أن يعجز عنها، والدولة في هذه الأزمنة إذا منحت، تشترط أنك تحييها في ثلاث سنين مثلاً، أو خمس، أو ست وتحدد له مدة، فإذا لم يحيها فإنه يستحق أن تنزع منه وتعطى لمن يحييها، حتى تستغل، فإن فيها منفعة فتستغل منفعتها، فمن أمسكها وتركها مواتاً عشرات السنين فقد أضاع منفعتها.
وقوله: (ويحصل بحوزها بحائط منيع) أي: بأن يعني يبني عليها جداراً من جميع الجهات، وهذا الجدار لا بد أن يكون منيعاً، بحيث لا تدخلها الغنم، ولا البقر، ولا الكلاب، بل يردها هذا الجدار، فمن أحاط عليها حائطاً فقد أحياها، واستحق أنها تبقى في ملكه، واعتبر قد عمرها.
الثاني: قوله: (أو إجراء ماء لا تزرع إلا به) أي: إذا أجري عليها ماء فإنها تملك بهذا، والعادة أن الزراع يبذرون ثم يجرون الماء، وعادة أنه يجري بسواقي.
وفي هذه الأزمنة يقوم مقامها ما يسمى بالرشاش، ويعتبر سبباً في التملك، فإذا بذر فيها ثم رشها بهذا الرشاش الذي يسقى به الزرع ملكها، وصار أحق بها هو وأهله من بعده.
ولو أجرى الماء -مثلاً- من مسافة ثلاثة كيلو مع سواقي إلى أن وصل إليها وزرعها ملكها، وأما أن يأتي بماء في قراب أو في سيارة ثم يصبه عليها فلا يملكها والحال هذه؛ وذلك لأنه يؤدي إلى أن كل أحد يأتي بقربة ويصبها في مكان ويقول: ملكت هذه البقعة! فلا بد أن يجري الماء، إما مع سواقي أو ما أشبه ذلك من أنابيب الري.
وما زرعه على الطّل، أو على المطر، لا يملكها؛ وذلك لأنه ما أجرى إليها ماء، بل الماء الذي سقاه بها ماء السماء، فلا يملكها والحال هذه، ولكن يكون أحق بها ما دام زرعه باقياً.
قوله: (أو قطع ماء لا تزرع معه) ، كما لو جاء إلى أرض قريبة من الأنهار، أو من البحر، ثم حبس الماء الذي فيها ومنعه، وكانت مستنقعاً، فإنه يملكها والحال هذه؛ لأنها قبله لا تصلح أن تزرع، فقد كانت مستنقعاً -قطعة بحر أو قطعة نهر- فدفن ذلك المستنقع، أو حجز الماء الذي يمد إليها من البحر أو من النهر، فيملكها بذلك.
وكذلك: إذا حفر بئراًَ فإنه يملك حريمها، وورد في حريم البئر خلاف: فمنهم من يقول: حريم البئر مد رشائها، ومنهم من يقول: حريمها خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب إذا كانت بئراً جديدة، وإذا كانت قديمة فحريمها خمسون ذراعاً من كل جانب، وورد في ذلك حديث: (للبئر البدي خمسة وعشرون ذراعاً، والعادي خمسون ذراعاً) ، العادية: البئر القديمة، وإذا وجدت بئراً قديمةً قد اندفنت، وليست لأحد ولا يعرفها أحد، ثم إنك أحييتها، وحفرتها من أعلاها حتى أخرجت ماءها، وحتى وصلت إلى قعرها، فإن لها حريماً -يعني: حمى- من كل جانب: خمسون ذراعاً، وأما البئر الزراعية التي تزرع عادةً، فذهب بعضهم إلى أن حريمها ثلاثمائة ذراع من كل جانب إذا كانت للزرع، بخلاف ما إذا كانت لسقي الدواب، أو الامتياح -يعني: الارتواء منها- فإنه يكفيه خمسة وعشرون أو خمسون، وإذا كانت لا تكفي لعمقها، بأن كان عمقها -وهي بدية- ستين ذراعاً، أو عمقها خمسين ذراعاً، وقد رأينا آباراً في شمال المملكة عمقها أكثر من ستين باعاًًً -ليس ذراعاً- وذكروا لنا أن هناك بئراً عمقها قريب من تسعين باعاً، ففي هذه الحالة هم بحاجة إلى أن يكون حماها مد رشاها، وعادتهم أنهم يجتذبون الماء بالدلاء، والدلو معلق في رشا -حبل-، ثم يربطون طرف الحبل ويضعونه على البكرة، ثم يربطونه على دابة -بعير مثلاً- وفي هذه الأزمنة على سيارة يجتذبوا الدلو من البئر إلى أن يخرج، فربما يكون طول الرشا نحو ثلاثمائة ذراع أو قريباً منها؛ فلذلك هي بحاجة إلى مد رشاها.
فالحاصل: أن من حفر بئراً إلى أن وصل إلى الماء فإنه يملكها ويملك حريمها.
وكذلك إذا غرس شجراً فيها مما لا يعيش إلا بالغرس، يعني: أخرج الماء من البئر ثم غرسه حولها ملك ما غرسه كما يملك ما زرعه، وإذا أخرج الماء وزرع به زرعاً ولو مائة باع ملك، وكذلك إذا غرس غرساً وسقاه من هذه البئر أو جذب ماء من بئر بعيدة وسقى ذلك الغرس: نخلاً أو تيناً، أو أترجاً، أو من الشجر الذي لا يقوم على ساق كبطيخ وقرع ونحوه، ملك الأرض التي غرس فيها.
يقول بعد ذلك: (ومن سبق إلى طريق واسع فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه ما لم يضر) ، أي: من الناس من يكون معه بضاعة قليلة ويحتاج إلى أن يبسط بساطاً وينشر عليه بضاعته، ويعرضها للمشترين فإذا كان الشارع واسعاً وجاء إنسان وبسط بساطه في جانب من هذا الطريق، وترك فيه متاعه في صندوق ثقيل، أو نحو ذلك، وكلما أصبح نشر بضاعته فهو أحق بذلك المكان؛ لأنه سبق إليه، ولو طالت مدة بقائه فيه، وكذلك إذا منح من قبل البلدية، وإذا أعطته البلدية قطعة، وقالت: أنت تستحق هذه القطعة، ابسط فيها بساطك وانشر فيها بضاعتك، حتى تستغني عنها، أو تجد ما تستأجر به دكاناً، فإنه أحق بهذا المكان ولو طالت المدة.