هنالك كتب يقول من يجوس خلال رياضها: حقاً لقد وقعت على كنوز متعددة متنوعة، لا على كنز واحد. من تلك الكتب تاريخ دمشق لابن عساكر وبغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم. وقد عايشت هذا الكتاب الثاني سنوات طويلة وكنت في كلِّ مرة أكتشف فيه أشياء جديدة. ولا ريب في أنَّ كمال الدين ابن العديم كان يملك مكتبة نادرة، وحرصا على العلم، وخطاً جميلاً، بالإضافة إلى ما كان يعمر في قلبه من محبة لحلب، ولمعالمها وللقرى والدساكر والحصون التابعة لها. وفيه تتجلى إلى جانب ذلك كله دقة المعالم، وحصافة الناقل. وعلى مدى الأيام أصبح كتاب بغية الطلب صديقاً مؤنساً، تارة أفهرس المواد التي أجدها فيه مفيدة لي في أبحاثي، وتارة أحاول ترتيب القرى المذكورة فيه؟ أرتبها على حروف المعجم وأعرِّف بها بالمقارنة مع المعاجم الجغرافية الأخرى؛ ولكن أكبر ما أقدمت عليه بوحي منه هو التعرف إلى مصادره الكثيرة، وكثير منها نادر. وكان أن أخذت أجمع النقول المأخوذة من كتاب واحد، وأضعها في نطاق، لكي يتمَّ لي تصوُّر المصدر الأصليّ الذي عنه أخذت، ومصادر بغية الطلب تعدّ بالعشرات، ولهذا كان عملي في البداية " ألهية " تؤدي إلى المعرفة وترسخها، ثم تطورت هذه الألهية حين حاولت أن أتجاوز بغية الطلب، وأبحث عما نقل في غيره من هذا المصدر أو ذاك. عندئذٍ اتسع نطاق العمل كثيراً، وفي مدى سنوات ركَّزت على ثلاثين باباً، وأهملت ما عداها، وراعيت أن تكون هذه الكتب في ميدانين أحببتهما وهما التاريخ والأدب.