وقد وصف البيان، في أول كتابه بأبين بيان. ومحل الحاجة منه:

لا شك أن أعلى منازل البيان درجة وأسنى مراتبه مرتبة أبلغه في حاجة المبين نفسه وأبينه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه فإن تجاوز ذلك المقدار وارتفع عن وسع الأنام وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد كان حجة وعلماً لرسل الواحد القهار كما كان حجة وعلماً لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين وأرفع مراتب علاج المعالجين إلى ما يعجز عنه جميع العالمين وكالذي كان لها حجة وعلماً قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة بارتفاع ذلك عن وسع الأنام وتعذر مثله على جميع العباد وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين واليسير منه فاعلين فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا فبين أن لا بيان أبين ولا حكمة أبلغ ولا منطق أعلى ولا كلام أشرف من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوماً في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة والسجع والكهانة كل خطيب منهم وبليغ وشاعر منهم وفصيح وكل ذي سجع وكهانة فسفه أحلامهم وقصر معقولهم وتبرأ من دينهم ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته وحجته على حقيقة نبوته ما أتاهم به من البيان والحكمة والفرقان بلسان مثل ألسنتهم ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة ومن المقدرة عليه نقصة فأقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق وشهدوا على أنفسهم بالنقص. انتهى من تفسير أبي جعفر بن جرير الطبري.

وفي خلاصة تاريخ العرب أشهر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم لاشتهار البلاغة والفصاحة في زمنه عند قريش الذين كانوا يفتخرون بحسن الكلام ويتغالون فيه كما كان إحياء الموتى لعيسى والثعبان لموسى زمن اشتهار السحر والنفس الطيب لداود زمن اشتهار الموسيقى وتلا - صلى الله عليه وسلم - على عباد الأصنام أول سورة فصلت وبلغ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: 9] إلى أن قال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 31، 32] وكان من أراد الله هدايته يسمع القرآن فيسلم كعمر رضي الله عنه فإنه توجه بسيفه لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: لا تفعل لئلا يقتلك بنو عبد مناف ولكن اردع خباباً وأختك وابن عمك سعيد بن زيد فإنهم أسلموا فقصدهم وهم يتلون سورة طه فسكتوا فسألهم عما سمعه فأنكروه فضرب أخته فشجها قائلاً: أريني ما كنتم تقرأونه وخافت على الصحيفة فعاهدها على أن يردها إليها فدفعتها وقرأها وقال ما أحسن هذا وأكرمه، ثم توجه إلى النبي فأسلم اهـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015