اتخذ المعترضون من وقائع جمع القرآن وليجة يتسللون من خلالها للنيل من القرآن، وإيقاع التشكيك فى كونه وحيًا من عند الله عز وجل.
والواقع أن الذى ألجأهم إلى التسلل من هذه " الوليجة " وهى وقائع جمع القرآن أمران رئيسيان:
الأول: محاولتهم نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهى الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقص.
الثانى: تبرير ما لدى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه: القديم (التوراة) والجديد (الأناجيل) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين، ومن غير المسلمين.
ومواطن الشبهة عندهم فى وقائع جمع القرآن والمراحل التى مرَّ بها، هى:
أن القرآن لم يُدوَّن ولم يكتب فى مصحف أو مصاحف كما هو الشأن الآن، إلا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أما فى حياته، فلم يكن مجموعاً فى مصحف. وأن جمعه مرًّ بعدة مراحل:
الأولى: فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - وهو جمع ابتدائى غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون؟ .
الثانية: فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وقد كان الجمع فى هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التى افتقر إليها تدوين القرآن فيما بعد. لأن القرآن لم يكن فيهما مضبوطًا مشكولاً.
الثالثة: الإضافات التى أُلْحِقَتْ بالنص القرآنى وأبرزها:
* نَقْط حروفه لتمييز بعضها من بعض، مثل تمييز الخاء من الجيم والحاء، وتمييز الجيم من الخاء والحاء، وتمييز التاء بوضع نقطتين فوقها عن كل من الياء والباء والنون والثاء.
1- ضبط كلماته بالضم والفتح والكسر والجزم، مثل: " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين " وهذا أمر طارئ على جمع القرآن فى مرحلتيه السابقتين.
2- علامات الوقف: مثل:ج صلى لا قلى م 00 00
3- وضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات فى كل سورة.
إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة فى العصر النبوى، بل ولا فى عهد الخلفاء الراشدين.
يذكرون هذا كله ليصوروا أن الشبهة التى لوحظت فى جمع المصحف الحاوى للقرآن الكريم، تزرع الشكوك والريوب (جمع ريب) فى وحدة القرآن واستقراره وسلامته من التحريف. فعلام إذن يصر المسلمون على اتهام التوراة التى بيد اليهود الآن أنها لا تمثل حقيقة التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام؟ أو لماذا يطلقون هذا الوصف على مجموعة " الأناجيل ": التى بيد النصارى الآن؟
الرد على هذه الشبهة:
إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى صلى الله عليه وسلم وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى؛ لأن القرآن قبل جمعه فى مصاحف كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين.
والعرب قبل الإسلام، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة، من قبلهم أو معاصرة لهم، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه.
وروعة نظم القرآن، ونقاء ألفاظه، وحلاوة جرسه، وشرف معانيه، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر، فاشتد اهتمامهم به، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين، يجمعون بين حفظه والعمل به.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه شئ من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس.
وقد ساعد على سهولة حفظه أمران:
الأول: نزوله (مُنَجَّمًا) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين.
والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجد من مشكلات الحياة، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف.
الثانى: خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته، وإحكام تراكيبه، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان، مسموعًا بالآذان، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه، والميل الشديد إلى الإقبال عليه، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه.
وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص. ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير) (?) .
عدد آيات هذه السورة [العاديات] إحدى عشرة آية، وقد وزعت من حيث الفواصل، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات، على أربعة محاور، هى: الثلاث الآيات الأولى، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء: ضبحا قدحا صبحا.
والآيتان الرابعة والخامسة، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين: نقعا جَمْعا.
والآيات السادسة والسابعة والثامنة، انتهت فواصلها بحرف الدال: لكنود لشهيد لشديد.
أما الآيات التاسعة، والعاشرة، والحادية عشرة، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء: القبور الصدور لخبير.
مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة ماعدا الآيات الثلاث الأولى مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى: " لكنود " و " الياء " فى: " لشهيد لشديد ".
ثم " الواو " فى: " القبور الصدور ثم " الياء " فى: " لخبير " وحروف المد تساعد على " تطرية " الصوت وحلاوته فى السمع. لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا، وأضفت عليها طابعًا غنائيًا من طراز فريد (?) جذب الإسماع، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه، ثم الإيمان به.
ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران:
أنها سورة قصيرة، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية.
قصر آياتها، فمنها ما تألف من كلمتين، وهى الآيات الثلاث الأولى. ومنها ما تألف من ثلاث كلمات، وهى الآيتان الرابعة والخامسة. ومنها ما تألف من أربع كلمات، وهى الآيات: السادسة والسابعة والثامنة. وآيتان فحسب كلماتها خمس، وهما العاشرة والحادية عشرة. وآية واحدة كلماتها سبع، هى الآية التاسعة.
ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها. فالآيات الثلاث الأولى قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله.
والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض، وسرعة عَدْوِِهٍَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه.
ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة: " إن الإنسان لربه لكنود ": عاص لله، كفور بإنعامه عليه.
وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه، شهيد على كفرانه نعمته.
وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم.
أما الآيات الثلاث الأخيرة من (?) إلى (?) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه.
وهذه السمات، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها، سمات عامة للقرآن كله، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (?) .
إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها، هى السماع. وهكذا وصل إلينا القرآن، من بداية نزوله إلى نهايته.
وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين.
وأول سامع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع القرآن كله مرات من جبريل.
وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل.
أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل؛ لأنه كان إذا نزل الوحى، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور.
ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين، إما من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من أفواه كتاب الوحى.
وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله لله، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم. ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين. زيادة فى التثبت والتوثيق.
وفى هذه الفترة (فترة حياة النبى) لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس، مع صحته وصوابه.
وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة؛ لأنها كانت مفرقة، ولم تكن مجموعة.
وكانت حظوظ الصحابة، من حفظ القرآن متفاوتة، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير، ومنهم من يحفظ القدر الكثير، ومنهم من يحفظ القرآن كله. وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن، وكانوا يسمون حفظة القرآن ب " القُرَّاء ".
ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (?) .
أول جمع للقرآن الكريم
لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، ولا فى صدر خلافة أبى بكر رضى الله عنه، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع.
وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا. هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى صلى الله عليه وسلم، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع.
ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر رضى الله عنهما.
وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها (?) .
وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك.
وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، التابعون من الطبقة الأولى، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة، وحفظًا للقرآن كله، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى رضى الله عنه وآخرون.
كان هذا أول جمع للقرآن، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف. والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ.
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين.
مرحلة الجمع الثانية (?)
كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة. والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة.
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة. فنهض رضى الله عنه للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير، سعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان رضى الله عنه لهذه المهمة الجليلة؛ لأنه أى زيد بن ثابت قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى:
كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية.
كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله.
كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام.
كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه.
منهج الجمع فى هذه المرحلة
وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران:
الأول: المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه صلى الله عليه وسلم سماعًا مباشرًا منه.
فكان لا يُقبل شئ فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام.
الثانى: أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل. فلا يكفى حفظ الرجل الواحد، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر، بل لابد من الأمرين معًا:
1- وجودها فى مصحف أبى بكر.
2- ثم سماعها من حافظين، أى شاهدين، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين.
قام هذا الفريق، وفق هذا المنهج المحكم، بنسخ القرآن،لأول مرة، فى مصحف واحد، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعارض عثمان منهم أحدًا، حتى عبد الله بن مسعود، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان رضى الله عنه، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول، فى جميع الأقطار والعصور.
ونسخ من مصحف عثمان، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام، مثل الكوفة والح
جاز، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان رضى الله عنه، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها.
الفرق بين الجمعين
من نافلة القول، أن نعيد ما سبق ذكره، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما كان واحدًا، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين.
وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها. فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع.
ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد، مانع لها من التفرق مرة أخرى.
أما الجمع فى خلافة عثمان رضى الله عنه فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد. وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد.
أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية:
1- توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل. وقد تم ذلك على خير وجه.
2- القضاء على القراءات غير الصحيحة، وجمع الناس على القراءات الصحيحة، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه.
3- حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها. والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين.
وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه. لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ.
فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين:
الوجه الأول: جمع أبى بكر رضى الله عنه كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات.
وجمع عثمان رضى الله عنه كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد، أطلق عليه " المصحف الإمام ".
أما الوجه الثانى فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم.
وهو فى جمع عثمان، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام.
أما المتون (النصوص) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام.
فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصورحتى الآن وإلى يوم الدين.
فذلكة سريعة:
العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية:
1- إن تدوين متون القرآن (نصوصه) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل. وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا.
2- إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد، حتى عصرنا الحالى.
- إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، لم تكن فترة إهمال للقرآن، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (?) . اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية:
الأولى: السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته.
الثانية: الحفظ المتقن فى الصدور.
والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز. وسيظلان هكذا إلى يوم الدين.
- إن القرآن منذ أول آية نزلت منه، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين، أو المسلمون غائبون عنه، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد.
إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح، ومعروف كل المعرفة، لم تمر عليه فترات غموض، أو فترات اضطراب، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (?) التوراة والإنجيل. وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب، واقعيات التوراة والأناجيل نشأة، وتدوينًا، واختلافًا واسع المدى، فى الجوهر والأعراض التى قامت به.
وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل، وهى: النقط والضبط وعلامات الوقف.
المراد بالنَقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء.
أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع: الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة. حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف.
أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها. وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان:
الأول: أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون " (أصول) الكلمات.
الثانى: أنها كلها أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى، ولتلاوته صوتيًا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى:
هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيًا محكمًا، وليست هى من عناصر التنزيل، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا. وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون.
فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء، والباء والتاء والثاء والنون والسين والشين، والطاء والظاء والفاء والقاف والعين والغين، والصاد والضاد.
وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضًا طريًا كما أنزله الله على خاتم رسله، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف؛ لأنها كما قلنا من قبل وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف.
فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى: (كمثل جنة بربوة) (?) .
لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات، مثل: حَبَّة حية حِنَّة خبَّة جُنة حِتة خيَّة جيَّة حبة جبَّة.
ولكن لما نقطت حروفها، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة.
وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى، ونصر بن عاصم الليثى، ويحيى بن يَعْمُر، والخليل ابن أحمد، وكلهم من كبار التابعين (?) .
والخلاصة: أن نقط حروف الكلمات القرآنية، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن.
وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة، وهو من المصالح المرسلة، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها.
وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها.
وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة. أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة.
والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها والله سبحانه وتعالى أعلم وسائل إيضاح كما تقدم، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية. وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف، وعلامات الضبط الأربع: الفتحة والضمة والكسرة والسكون، فوق أو تحت رسم الكلمات.
ونسوق الآن تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف:
قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هوصلى، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير) (?) .
نرى العلامة (صلى) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف، أولى من الوقف.
والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق، ومن حيث البناء التركيبى، هما شرط " إنْ "، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما. الأول اسم ظاهر، والثانى ضمير عائد عليه، أما كون الوصل أولى من الوقف، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها وقوله تعالى: (قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل قلى فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا) (?) .
علامة الوقف (قلى) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم.
وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية.
وجواز الوصل، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (?) .
أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى: (قل ربى..) .
أما جملة " فلا تمار فيهم " فهى جملة إنشائية (?) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى. إذن فالكلامان غير متجانسين. هذه واحدة.
أما الثانية فإن " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا "، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً.
وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين. والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول، وبداية الكلام الثانى، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم، من حيث الألفاظ (الأداء الصوتى) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها، وقوله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منهج ذلك من آيات الله) (?) .
علامة الوقف (ج) موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده " ذلك من آيات الله " وهذا الجواز مستوى الطرفين، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف. وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله.
وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله.. " فهما إذن متجانسان.
والوقف مناسب جدًا لطول الكلام قبل كلمة " منه " وفى الوقف راحة للنفس، والراحة تساعد على إتقان التلاوة.
والوصل مناسب جدًا من حيث المعنى؛ لأن قوله تعالى: " ذلك من آيات الله " تركيب واقع موقع " الخبر " عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم.
وقوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبينلا يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة..) (?) .
علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع.
والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم ".
أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية.
لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف. وهذا لا يجوز بلاغة؛ فمنع الوقف هنا كان سببه الوفاء بحق المعنى، ومجىء الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف.
وقوله تعالى: (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولدم له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا) (?) .
علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو: " له ما فى السماوات وما فى الأرض ".
وإنما كان الوقف، هنا لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى.
بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى: " له ما فى السماوات وما فى الأرض " وصف ل " الولد " المنفى، أى ليس لله ولد، له ما فى السماوات والأرض، وهذا لا يمنع أن يكون لله سبحانه ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض؟! وهذا باطل قطعًا.
أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من " له ما فى السماوات وما فى الأرض " فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى، ويتعين أن يكون لله عز وجل، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية.
فأنت ترى أن الوقف هنا يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة. ومثله قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهمم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) (?) .
علامة الوقف (م) موضوعة فوق الميم من كلمة " همم " للدلالة على لزوم الوقف عليها، وامتناع وصلها بما بعدها، وهو " الذين خسروا أنفسهم ".
وسر ذلك اللزوم؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى: " الذين خسروا أنفسهم " وصفًا ل " أبناءهم " وهذا غير مراد، بل المراد ما هو أعم من "أبناءهم" وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان. فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم، وليس خاصًا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب.
هذه هى علامات الوقف، وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها، أو جاءت رامزة إليها، وبقيت حقيقة مهمة، لابد من الإشارة إليها.
إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن، بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين.
وهذا وهم كبير وقعوا فيه، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع. هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل، وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن، قبل أن يُدوَّن
القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن، دون أن تكون بشكلها جزءا من التنزيل (?) .
تنسيق المصحف:
نعنى ب: تنسيق المصحف " الفواصل بين سوره ب: " بسم الله الرحمن الرحيم " وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل:
الربع الحزب الجزء. لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة.
أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات.
وليس فى هذا مطعن لطاعن؛ لأنّاَ نقول كما قلنا فى نظائره من قبل إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا.
ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين.
والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (?) فى تَصيُّد التهم للقرآن، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل
ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث. ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته.
بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق. وتيسيرات مهمة للقراء.
وهذا هو الشأن فى عمل السلف رضى الله عنهم فى تنسيق المصحف الشريف، وهو تنسيق لا مساس له ب " قدسية الآيات " لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تاريخ القرآن (?)
هذا هو تاريخ القرآن، منذ نزلت أول سورة منه، إلى آخر آية نزلت منه، كان كتابًا محفوظا فى الصدور، متلوًّا بالألسنة، مسطورًا على الرقاع، ثم مجموعًا فى مصاحف، لم يخضع لعوامل محو وقرض، ولا آفات ضياع، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب، ولم تضل هى عنه أو تغب، تعرف مصادره وموارده، على مدى عمره الطويل، تعرفه كما تعرف أبناءها، بلا زيغ ولا اشتباه.
هذا هو تاريخ القرآن، وضعناه وضعًا موجزًا، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة، كاشفًا عن أسرارها. وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام:
هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه، أو نزع الثقة عنه؟
وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب؟
وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة، أو الأمة غابت عنه لحظة؟
وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه؟ أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً؟
تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء.
هذا هو ما عندنا. فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (?) .
القديم (التوراة) التى بين أيدى اليهود الآن، والجديد (الأناجيل) التى بين أيدى النصارى الآن.
ما الذى تعرض له الكتاب المقدس فى تاريخه الأول المقابل لفترة تاريخ القرآن، التى فرغنا من عرضها؟
تعالوا معنا نفحص تلك الفترة من تاريخ الكتاب المقدس فى رحلته المبكرة:
مولد التوراة وتطورها:
يضطرب أهل الكتاب عامة، واليهود خاصة حول تاريخ التوراة (مولدها وتطورها) اضطرابًا واسع المدى ويختلفون حولها اختلافًا يذهبون فيه من النقيض إلى النقيض، ولهذا عرضوا لتاريخ القرآن بالطعن والتجريح ليكون هو والتوراة سواسية فى فقد الثقة بهما، أو على الأقل ليُحرجوا المسلمين بأنهم لا يملكون قرآنًا مصونًا من كل ما يمس قدسيته وسلامته من التحريف والتبديل. وقد عرضنا من قبل تاريخ القرآن، وها نحن نعرض تاريخ التوراة حسبما هو فى كتابات أهل الكتاب أنفسهم، مقارنًا بما سبق من حقائق تاريخ القرآن الأمين.
الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد تتعلق به آفتان قاتلتان منذ وجد، وإلى هذه اللحظة التى نعيش فيها:
آفة تتعلق بتاريخه متى ولد، وعلى يد من ولد، وكيف ولد، ثم ما هو محتوى الكتاب المقدس؟ وهل هو كلام الله، أم كلام آخرين؟ (?) .
والمهم فى الموضوع أن هذا الغموض فى تاريخ الكتاب المقدس لم يثره المسلمون، بل أعلنه أهل الكتاب أنفسهم يهودًا أو نصارى ممن اتسموا بالشجاعة، وحرية الرأى، والاعتراف الخالص بصعوبة المشكلات التى أحاطت بالكتاب المقدس، مع الإشارة إلى استعصائها على الحلول، مع بقاء اليهودية والنصرانية كما هما.ومعنى العهد عند أهل الكتاب هو " الميثاق " والعهد القديم عندهم هو ميثاق أخذه الله على اليهود فى عصر موسى عليه السلام، والعهد الجديد ميثاق أخذه فى عصر عيسى عليه السلام (?) .
والمشكلتان اللتان أحاطتا بالكتاب المقدس يمكن إيجازهما فى الآتى:
- مشكلة أو أزمة تحقيق النصوص المقدسة، التى تمثل حقيقة العهدين.
- مشكلة أو أزمة المحتوى، أى المعانى والأغراض التى تضمنتها كتب (أى أسفار) العهدين، وفصولهما المسماة عندهم ب"الإصحاحات ".
والذى يدخل معنا فى عناصر هذه الدراسة هو المشكلة أو الأزمة الأولى؛ لأنها هى المتعلقة بتاريخ الكتاب المقدس دون الثانية.
متى؟ وعلى يد مَنْ ولدت التوراة:
هذا السؤال هو المفتاح المفضى بنا إلى إيجاز ما قيل فى الإجابة.
وهو تساؤل صعب، ونتائجه خطيرة جدًا، وقد تردد منذ زمن قديم. وما يزال يتردد، وبصورة ملحة، دون أن يظفر بجواب يحسن السكوت عليه.
وممن أثار هذا التساؤل فى العصر الحديث وول ديورانت الأمريكى الجنسية، المسيحى العقيدة، وكان مما قال:
" كيف كُتبت هذه الأسفار (يعنى التوراة) ومتى كُتبت؟ ذلك سؤال برئ لا ضير فيه، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا فى فقرة واحدة، نتركه بعدها من غير جواب؟! (?) .
فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن خروج موسى من مصر كان فى حوالى 1210 قبل ميلاد السيد المسيح، وأن تلميذه يوشع بن نون الذى خلفه فى بنى إسرائيل (اليهود) مات عام 1130 قبل الميلاد. ومن هذا التاريخ ظلت التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام مجهولة حتى عام 444 قبل الميلاد، أى قرابة سبعة قرون (700سنة) فى هذا العام. (444) فقط عرف اليهود أن لهم كتابًا اسمه التوراة؟
ولكن كيف عرفوه بعد هذه الأزمان الطويلة؟ وول ديورانت يضع فى الإجابة على هذا السؤال طريقتين إحداهما تنافى الأخرى.
الطريقة الأولى:
أن اليهود هالهم ما حل بشعبهم من كفر، وعبادة آلهة غير الله، وانصرافهم عن عبادة إله بنى إسرائيل " يهوه " وأن " الكاهن خلقيا " أبلغ ملك بنى إسرائيل " يوشيا " أنه وجد فى ملفات الهيكل ملفًا ضخمًا قضى فيه موسى عليه السلام فى جميع المشكلات، فدعا الملك " يوشيا" كبار الكهنة وتلا عليهم سفر " الشريعة " المعثور عليه فى الملفات، وأمر الشعب بطاعة ما ورد فى هذا السفر؟
ويعلق وول ديورانت على السفر فيقول: "لا يدرى أحد ما هو هذا السفر؟ وماذا كان مسطورًا فيه؟ وهل هو أول مولد للتوراة فىحياة اليهود "؟ .
الطريقة الثانية:
أن بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبى البابلى شعروا أنهم فى حاجة ماسة إلى إدارة دينية تهىء لهم الوحدة القومية والنظام العام، فشرع الكهنة فى وضع قواعد حكم دينى يعتمد على المأثور من أقوال الكهنة القدماء وعلى أوامر الله؟
فدعا عزرا، وهو من كبار الكهان، علماء اليهود للاجتماع وأخذ يقرأ عليهم هو وسبعة من الكهان سفر شريعة موسى ولما فرغوا من قراءته أقسم الكهان والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع، ويتخذوها دستورًا لهم إلى أبد الآبدين (?) .
هذا ما ذكره ديورانت نقلاً عن مصادر اليهود، وكل منهما لا يصلح مصدرًا حقيقيًا للتوراة التى أنزلها الله على موسى؛ لأن الرواية الأولى لا تفيد أكثر من نسبة الملف الذى عثر عليه " خلقيا " إلى أقوال موسى وأحكامه فى القضاء بين الخصوم.
ولأن الرواية الثانية تنسب صراحة أن النظام الذى وضعه الكهان، بعد قراءتهم السفر كان خليطًا من أقوال كهانهم القدماء، ومن أوامر الله؟!