(رُجُوعُ أَبِي طَالِبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ زُرَيْرٍ وَصَاحِبِيهِ) :
فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ، فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النَّاسُ: أَنَّ زُرَيْرًا وَتَمَّامًا وَدَرِيسًا، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَدْ كَانُوا رَأَوْا من رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرَادُوهُ فَرَدَّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى، وَذَكَّرَهُمْ اللَّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ، وَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ، فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ: فَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا، حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلَّا الْأَمِينُ، لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- يُحَدِّثُ عَمَّا كَانَ اللَّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِ، أَنَّهُ قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي غِلْمَانِ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى، وَأَخَذَ إزَارَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهُ، لَكْمَةً وَجِيعَةً، ثُمَّ قَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إزَارَكَ، قَالَ: فَأَخَذْتُهُ وَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي [1] .