ذِي الْحَجَّةِ إلَى رَجَبٍ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ. وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلٌّ حَدَّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَا يُحَدِّثُ بَعْضٌ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ مِنْ عُسْرَةِ النَّاسِ، وَشِدَّةٍ مِنْ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ: وَحِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلَّا كَنَّى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ [1] ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ، لِبُعْدِ الشُّقَّةِ [2] ، وَشِدَّةِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قِيسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ: يَا جَدُّ، هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ [3] ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ تَأْذَنُ لِي وَلَا تفتّنى؟ فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدَّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إنْ رَأَيْتَ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. فَفِي الْجَدِّ بْنِ قِيسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ 9: 49. أَيْ إنْ كَانَ إنَّمَا خَشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْبَرُ، بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالرَّغْبَةُ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ.