الملكَ المُوَحِّدَ صَبِيّاً، فَطَالَ عُمُرُه، وَاسْتَولَتِ التَّتَارُ عَلَى الحصنِ، فَبقِيَ فِي مَمْلَكَةٍ صَغِيرَةٍ حَقِيرَةٍ مِنْ تَحْتِ يَدِ التَّتَارِ إِلَى بَعْدَ السَّبْعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
وَقَالَ لِي تَاجُ الدِّيْنِ الفَارِقِيُّ: عَاشَ إِلَى بَعْدَ الثَّمَانِيْنَ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَهُ ابْنُه -يَعْنِي الملكَ الكَامِلَ ابْنَ المُوَحِّدِ- الَّذِي قَتلَه قَازَانُ سَنَةَ سَبْعِ مائَةٍ، وَأُقيمَ بَعْدَهُ ابْنُه الصَّالِحُ فِي رُتْبَةِ جُندِيٍّ، وَكَانَ السُّلْطَانُ يَقُوْلُ: توارنشاه مَا يَصلُحُ لِلمُلكِ. وَكَانَ حُسَامُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ يَلحُّ عَلَيْهِ فِي إِحضَارِه، فَيَقُوْلُ: أُحضِرُه لِيَقتلُوْهُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
قَالَ ابْنُ حَمُّوَيْه سَعْدُ الدِّيْنِ: لَمَّا قَدِمَ، طَالَ لِسَانُ كل خامل. وَوجدُوْهُ خَفِيفَ العَقْلِ سَيِّئَ التَّدْبِيْرِ، وَقَعَ بِخُبزِ فَخْرِ الدِّيْنِ لِلاَلاَهُ جَوْهَرٍ، وَتطلَّع الأُمَرَاء إِلَى أَنْ يُنفق فِيهِم كَمَا فَعلَ بِدِمَشْقَ، فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئاً، وَكَانَ لاَ يَزَالُ يَتحرَّكُ كتفُه الأَيْمَنُ مَعَ نِصْفِ وَجهِه، وَيُكثر الولَعَ بِلِحيتِهِ، ومتى سكر ضرب الشموع بسيف، ويقال: هَكَذَا أَفْعَلُ بِمَمَالِيْكِ أَبِي، وَيَتَهَدَّدُ الأُمَرَاءَ بِالقَتلِ، فَتَنكَّرُوا لَهُ، وَكَانَ ذَكيّاً، قَوِيَّ المُشَاركَةِ، يَبحثُ، وَيَنْقلُ.
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: كَانَ يَكُوْنُ عَلَى السِّمَاطِ بِدِمَشْقَ، فَإِذَا سَمِعَ فَقِيْهاً يَنقلُ مَسْأَلَةً صَاحَ: لاَ نُسَلِّمْ. وَاحتجبَ عَنْ أُمُوْرِ النَّاسِ وَانْهَمَكَ فِي الفَسَادِ بِالغِلمَانِ وَمَا كَانَ أَبُوْهُ كَذَلِكَ، وَيُقَالُ: تَعرَّضَ لِسرَارِي أَبِيْهِ، وَقَدَّمَ أَرذَال، وَوعد أَقطَاي بِالإِمْرَةِ فَمَا أَمَّرَه، فَغَضِبَ، وَكَانَتْ شَجَرُ الدُّرِّ قَدْ ذَهَبتْ مِنَ المَنْصُوْرَةِ إِلَى القَاهِرَةِ، فَمَا وَصلَ بَقِيَ يَتهدَّدُهَا وَيُطَالبُهَا بِالأَمْوَالِ، فَعَامَلتْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي المُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَثَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ البَحرِيَّةِ عَلَى السماط فضربه على يديه، قطع أَصَابعَه، فَقَامَ إِلَى البُرْجِ الخَشَبِ، وَصَاحَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا? قَالُوا: إِسْمَاعِيْلِيٌّ، قَالَ: لاَ وَاللهِ بَلْ مِنَ البَحْرِيَّةِ، وَاللهِ لأُفْنِيَنَّهُم، وَخَاطَ المُزَيِّنُ يَدَه فَقَالُوا: بُتُّوهُ وَإِلاَّ رُحنَا، فَشدُّوا عَلَيْهِ فَطَلَعَ إِلَى أَعْلَى البُرجِ، فَرَمَوُا البُرجَ بِالنفطِ وبالنشاب فَرمَى المِسْكِيْنُ بِنَفْسِهِ، وَعدَا إِلَى النِّيلِ وَهُوَ يَصيحُ: مَا أُرِيْدُ المُلكَ خَلُّونِي أَرجعْ إِلَى الحِصْنِ يَا مُسْلِمِيْنَ أَمَا فِيْكُم مَنْ يَصْطَنِعُنِي؟! فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَد، وَتعلّقَ بِذَيلِ أَقطَاي فَمَا أَجَارَه وَعَجِزَ، فَنَزَلَ فِي المَاءِ إِلَى حَلقِهِ، فَقُتِلَ فِي المَاءِ.
وَكَانَ قَدْ نَزَلَ بِحِصْنِ كيفا ولده.