وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: انْحدرَ ابْنُ شَدَّاد، إِلَى بَغْدَادَ، وَأَعَاد بِهَا، ثُمَّ مَضَى إِلَى المَوْصِل، فَدرَّس بِالكَمَاليَّة، وَانتفع بِهِ جَمَاعَة، ثُمَّ حَجَّ سَنَةَ 583، وَزَار الشَّامَ، فَاسْتحضرَهُ السُّلْطَان صَلاَح الدِّيْنِ وَأَكْرَمَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ جُزء حَدِيْث ليسمع مِنْهُ، فَأَخَرَجَ لَهُ "جُزْءاً" فِيْهِ أَذكَارٌ مِنَ البُخَارِيِّ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَمَعَ كِتَاباً مُجَلَّداً فِي فَضَائِل الجِهَاد وَقَدَّمه لَهُ وَلاَزَمه فَوَلاَّهُ قَضَاءَ العَسْكَرِ، ثُمَّ خَدَمَ بَعْدَهُ وَلدَهُ المَلِكَ الظَّاهِرَ غَازِياً، فَوَلاَّهُ قَضَاءَ مَمْلَكَتِهِ وَنَظَرَ الأَوقَافَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَتِسْعِيْنَ. وَلَمْ يُرْزَق ابْناً، وَلاَ كَانَ لَهُ أَقَاربُ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الْملك الظَّاهِر أَقطعه إِقطَاعاً يَحصُل لَهُ مِنْهُ جُمْلَةٌ كَثِيْرَةٌ، فتصمد له مال كثير فَعَمَّرَ مِنْهُ مَدْرَسَةً سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّ مائَةٍ وَدَارَ حَدِيْثٍ وَتُربَة. قَصَدهُ الطَّلبَةُ وَاشْتَغَلُوا عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ وَللدُّنْيَا، وَصَارَ المُشَارَ إِلَيْهِ فِي تَدبِيرِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، إِلَى أَنِ اسْتولتْ عَلَيْهِ البرودَات والضعف، فكان يتمثل:

من يتمن العمر فلبدرع ... صَبْراً عَلَى فَقْدِ أَحْبَابِهِ

وَمَنْ يُعَمَّرْ يَلْقَ فِي نَفْسِهِ ... مَا قَدْ تَمَنَّاهُ لأَعْدَائِهِ

قَالَ الأَبَرْقُوْهِيُّ: قَدِمَ مِصْرَ رَسُوْلاً غَيْرَ مَرَّةٍ، آخِرُهَا القدْمَة الَّتِي سَمِعْتُ مِنْهُ فِيْهَا.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ يُكْنَى أَوَّلاً بِأَبِي العِزِّ، ثُمَّ غَيَّرَهَا بِأَبِي المَحَاسِنِ. قَالَ: وَقَالَ فِي بَعْضِ تَوَالِيفِه: أَوَّلُ مَنْ أَخذتُ عَنْهُ شَيْخِي صَائِنُ الدِّيْنِ القُرْطُبِيّ، لاَزمتُ القِرَاءةَ عَلَيْهِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَرَأْت عَلَيْهِ مُعْظَمَ مَا رَوَاهُ مِنْ كُتُبِ القِرَاءاتِ وَالحَدِيْثِ وَشُروحِه وَالتَّفْسِيْرِ. وَمِنْ شُيُوْخِي: سِرَاجُ الدِّيْنِ الجَيَّانِيُّ؛ قَرَأْتُ عَلَيْهِ "صَحِيْحَ مُسْلِمٍ" كُلَّهُ، وَ"الوَسِيطَ" لِلوَاحِدِيِّ سَنَة تِسْعٍ وَخَمْسِيْنَ بِالمَوْصِلِ. وَمِنْهُم فَخْر الدِّيْنِ أَبُو الرِّضَا ابْن الشَّهْرُزُوْرِيّ سَمِعْتُ عَلَيْهِ "مُسْنَدَ أَبِي عَوَانَةَ" وَ"مُسْنَدَ أَبِي دَاوُدَ"، وَ"مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ"، وَ"جَامِعَ التِّرْمِذِيِّ" ... إِلَى أَنْ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخذتُ عَنْهُ كَثِيْراً، وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ إِرْبِلَ فِي حَقِّي وَحقِّ أَخِي، فَتفضَّلَ وَتَلقَّانَا بِالقَبُولِ وَالإِكرَامِ وَلَمْ يَكُنْ لأَحدٍ مَعَهُ كَلاَم، وَلاَ يَعمل الطّوَاشِي طُغْرِيْل شَيْئاً إلَّا بِمشُوْرَتِهِ. وَكَانَ لِلْفُقَهَاءِ بِهِ حُرمَةٌ تَامَّةٌ ... إِلَى أَنْ قَالَ: أَثَّرَ الهَرَمُ فِيْهِ، إِلَى أَنْ صَارَ كَالفَرْخِ. وَكَانَ يَسلكُ طَرِيْق البَغَاددَة فِي أَوضَاعهِم، وَيلبس زِيَّهُم، وَالرُّؤَسَاءُ يَنْزِلُوْنَ عَنْ دَوَابِّهِم إِلَيْهِ. وَقَدْ سَارَ إِلَى مِصْرَ لإِحضَار بِنْتِ السُّلْطَانِ الكَامِلِ إِلَى زَوْجِهَا المَلِكِ العَزِيْزِ، ثُمَّ اسْتَقلَّ العَزِيْزُ بِنَفْسِهِ، فَلاَزمَ القَاضِي بَيْتَه، وَأَسْمَعَ الحَدِيْثَ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى القَضَاءِ. قَالَ: وَظهرَ عليه الخوف، وَعَادَ لاَ يَعرِفُ مَنْ كَانَ يَعرِفُهُ، وَيَسْأَلُهُ عَنِ اسْمِهِ وَمَنْ هُوَ، ثُمَّ تَمرَّضَ وَمَاتَ يَوْمَ الأَرْبعَاءِ، رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَلَهُ ثَلاَثٌ وَتِسْعُوْنَ سَنَةً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015