قُلْتُ: مَا تَحْتَ هَذَا الفِعْل طَائِل، فُكُلُّ مَخْدُومِ وَكَاهن يَتَأَتى لَهُ أَضعَاف ذَلِكَ.
قَالَ المُوَفَّقُ عَبْد اللَّطِيْفِ: وَفِي وَسط وِلاَيته اشْتَغَل برِوَايَة الحَدِيْث، وَاسْتنَاب نُوَاباً يَروون عَنْهُ، وَأَجرَى عَلَيْهِم جرَايَات، وَكَتَبَ لِلمُلُوْك وَالعُلَمَاء إِجَازَات، وَجَمَعَ كِتَاباً سَبْعِيْنَ حَدِيْثاً وَصل عَلَى يَد السُّهْرَوَرْدِيّ إِلَى حَلَب فَسَمِعَهُ الظَّاهِر، وَجمَاهير الدَّوْلَة وَشرخته. وَسَبَب مَيْله إِلَى الرِّوَايَة أَن قَاضِي القُضَاةِ العَبَّاسِيّ نُسِبَ إِلَيْهِ تَزوير فَأَحضروهُ وَثَلاَثَة مِنَ الشُّهُود، فَعزّر القَاضِي بتخرِيق عِمَامَته، وَطيف بِالثَّلاَثَة عَلَى جَمَال بِالذّرة، فَمَاتَ أَحَدهُم لَيْلَتَئِذٍ وَالآخر لبس لبس الفُسَّاق، وَالثَّالِث اخْتفَى وَهُوَ المُحَدِّثُ البَنْدَنِيْجِيّ رفِيقُنَا، وَاحتَاج وَبَاع فِي كُتُبِه فَوَجَد فِي الجزَاز إِجَازَة لِلنَاصِر مِنْ مَشَايِخ بَغْدَاد، فَرفعهَا إِلَيْهِ، فَخُلِع عَلَيْهِ وَأعْطي مائَة دِيْنَارٍ، ثُمَّ جُعِلَ وَكِيْلاً عَنِ النَّاصِر فِي الإِجَازَة وَالتّسمِيْع.
قُلْتُ: مِمَّنْ يَرْوِي عَنِ النَّاصِر بِالإِجَازَةِ عَبْد الوَهَّابِ بن سُكَيْنَة، وَابْن الأَخْضَرِ، وَقَاضِي القُضَاةِ ابْن الدَّامَغَانِيّ، وَوَلِي العَهْد، وَالملك العَادل، وبنوه، وشيخانا: محمود الزنجاني، والمقداد القيسي.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: شرّفنِي النَّاصِر بِالإِجَازَةِ، وَرويت عَنْهُ بِالحَرَمَيْنِ وَدِمَشْق وَالقُدْس وَحَلَب وَبَغْدَاد وَأَصْبَهَان ونيسابور ومرو وهمذان.
قال الموفق: وأقم مُدَّة يُرَاسل جَلاَل الدِّيْنِ الصَّبَّاحِيّ صَاحِب الأَلموت يرَاوده أَنْ يَعيد شعَار الإِسْلاَم مِنَ الصَّلاَةِ والصيام مما تركوه فيزمان سنَان، وَيَقُوْلُ لَهُم: إِنَّكُم إِذَا فَعَلتُم ذَلِكَ كُنَّا يَداً وَاحِدَة. وَاتّفقَ أَنَّ رَسُوْلَ خُوَارِزْم شَاه قَدِمَ فَزوّر عَلَى لِسَانه كتب فِي حق الملاَحدَة تَشتمل عَلَى الْوَعيد، وَعَزْم الإِيقَاع بِهِم، وَأَنَّهُ يَخرّب قلاعهُم وَيطلب مِنَ النَّاصِر المعونَة، وَأُحضر رَجُل مِنْهُم كَانَ قَاطناً بِبَغْدَادَ وَوقِّفَ عَلَى الكُتُب، وَأُخْرِج بِهَا وَبكُتُب مِنَ النَّاصِر عَلَى وَجه النّصح نِصْف اللَّيْل عَلَى البَرِيْدِ، فَقَدِم الأَلموت فَأَرهبهُم فَتظَاهِرُوا بِالإِسْلاَمِ وَإِقَامَة الشّعَار، وَبعثَوا رَسُوْلاً مَعَهُ مائَتَا شَابّ وَدَنَانِيْر كِبَاراً عَلَيْهَا: "لاَ إِلَهَ إلَّا الله مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ"، وَطَافَ المائَتَانِ بِهَا يَعلنُوْنَ بِالشهَادتين.
وَكَانَ النَّاصِر قَدْ ملأَ القُلُوْب هَيْبَة وَخيفَة، حَتَّى كَانَ يَرهبه أَهْل الهِنْد، وَأَهْل مِصْرَ، فَأَحيَى هَيْبَة الخِلاَفَة. لَقَدْ كُنْت بِمِصْرَ وَبِالشَّام فِي خلوَات المُلُوْك وَالأَكَابِر إِذَا جَرَى ذَكَرَهُ خفضُوا أَصوَاتهُم إِجلاَلاَ لَهُ. وَردَ بَغْدَاد تَاجر مَعَهُ مَتَاع دِمْيَاط المُذَهَّب، فَسَأَلُوْهُ عَنْهُ فَأَخفَاهُ فَأُعْطِي علاَمَات فِيْهِ مِنْ عدده وَأَلوَانه وَأَصْنَافه، فَازدَاد إِنْكَاره، فَقِيْلَ لَهُ: مِنَ العلاَمَات أَنَّك نَقمْت عَلَى مَمْلُوْكك فُلاَن التُّرْكِيّ فَأَخَذتهُ إِلَى سَيْف بَحر دِمْيَاط وَقتلته، وَدفنته هُنَاكَ خلوَة.