وَكَانَ فَخْرُ الدِّيْنِ لاَ يَمَلُّ الشَّخْصُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، لحُسْنِ سَمْتِهِ، وَنُورِ وَجهِهِ، وَلطفِهِ وَاقتصَادِهِ فِي ملبَسِهِ، وَكَانَ لاَ يَفتُرُ مِنَ الذِّكْرِ، وَكَانَ يُسَمِّعُ الحَدِيْثَ تَحْتَ النّسْرِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: أَخذتُ عَنْهُ مَسَائِلَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ المُعَظَّم لِيُوَلِّيَهُ القَضَاءَ، فَأَبَى، وَطَلَبَهُ ليلاً فَجَاءهُ، فَتلقاهُ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأُحضرَ الطَّعَامُ فَامْتَنَعَ، وَأَلحَّ عَلَيْهِ فِي القَضَاءِ، فَقَالَ: أَسْتخيرُ اللهَ، فَأَخْبرنِي مَنْ كَانَ مَعَهُ، قَالَ: وَرجعَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ الصَّغِيْرَ الَّذِي عِنْدَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّهَارِ فِيْهِ، فَلَمَّا أصبحَ أَتَوْهُ فَأَصرَّ عَلَى الامتنَاعِ، وَأَشَارَ بِابْنِ الحَرَسْتَانِيِّ فَوُلِّيَ، وَكَانَ قَدْ خَافَ أَنْ يُكْرَهَ فَجَهَّزَ أَهْلَهُ لِلسَّفَرِ، وَخَرَجَتِ المحَابرُ إِلَى نَاحِيَةِ حَلَبَ، فَرَدَّهَا العَادلُ، وَعَزَّ عَلَيْهِ مَا جَرَى.
قَالَ: وَكَانَ يَتورَّعُ مِنَ المرُوْرِ فِي زُقَاقِ الحَنَابِلَةِ لِئَلاَّ يَأْثَمُوا بِالوقيعَةِ فِيْهِ، وَذَلِكَ لأَنَّ عوَامَّهُم يُبغِضُونَ بنِي عَسَاكِرَ لِلتَّمَشْعُرِ، وَلَمْ يولِّهِ المُعَظَّم تدرِيسَ العَادليَّةِ لأَنَّه أَنْكَرَ عَلَيْهِ تَضْمِينَ الخَمْرِ وَالمكسِ، ثُمَّ لَمَّا حَجَّ أخذَ مِنْهُ التَّقَوِيَّةَ وَصلاَحيَّةَ القُدْسِ، ولم يبق له سوى الجاروخية.
قال أَبُو المُظَفَّرِ الجَوْزِيُّ: كَانَ زَاهِداً، عَابِداً، وَرِعاً، منقطعًا إلى العِلْمِ وَالعِبَادَةِ، حسنَ الأَخْلاَقِ، قَلِيْلَ الرَّغبَةِ فِي الدُّنْيَا، تُوُفِّيَ فِي عَاشرِ رَجَبٍ سَنَةَ عِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَقلَّ مَنْ تخلَّفَ عَنْ جِنَازَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: أَخْبَرَنِي مَنْ حضَرَهُ قَالَ: صَلَّى الظُّهْرَ، وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنِ العصرِ، وَتوضَأَ ثُمَّ تَشهَّدَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَالَ: رضيتُ بِاللهِ ربّاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، لقَّنَنِي اللهُ حُجَّتِي وَأَقَالَنِي عَثْرَتِي وَرَحِمَ غُرْبَتِي. ثُمَّ قَالَ: وعليك السَّلاَمُ، فَعلِمْنَا أَنَّهُ حضَرَتِ المَلاَئِكَةُ، ثُمَّ انْقَلْبَ مَيتاً. غسَّلَهُ الفَخْرُ ابْنُ المَالِكِيِّ، وَابْنُ أَخِيْهِ تَاجُ الدِّيْنِ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِالإِسهَالِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوْهُ زَينُ الأُمَنَاءِ، وَمَنِ الَّذِي قَدِرَ عَلَى الوُصُوْلِ إِلَى سَرِيْرِهِ?
وَقَالَ عُمَرُ بنُ الحَاجِبِ: هُوَ أَحَدُ الأَئِمَّةِ المُبرزِينَ، بَلْ وَاحدُهُم فَضْلاً وَقدراً، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، كَانَ زَاهِداً، ثِقَةً، متجهِّداً، غزِيْرَ الدَّمْعَةِ، حسنَ الأَخْلاَقِ، كَثِيْرَ التَّوَاضعِ، قَلِيْلَ التَّعَصُّبِ، سلكَ طَرِيْقَ أَهْل اليَقينِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَوقَاتِهِ فِي بَيْتِهِ فِي الجَامِعِ يَنشرُ العِلْمَ، وَكَانَ مطَّرِحَ الكَلَفِ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ منَاصبُ فَتركهَا، وُلِدَ فِي رَجَبٍ وَعَاشَ سَبْعِيْنَ سَنَةً، وَكَانَ الجمعُ لاَ يَنحصرُ كَثْرَةً فِي جِنَازَتِهِ. حَدَّثَ بِمَكَّةَ، وَدِمَشْقَ، وَالقُدْسَ، وَصَنَّفَ عِدَّةَ مُصَنَّفَاتٍ، وَسَمِعنَا منه.
وَقَالَ القُوْصِيُّ: كَانَ كَثِيْرَ البُكَاءِ، سرِيعَ الدُّمُوعِ، كَثِيْرَ الوَرَعِ وَالخشوعِ، وَافرَ التَّوَاضعِ وَالخضوعِ، كَثِيْرَ التَّهجُّدِ، قَلِيْلَ الهجوعِ، مبرزاً فِي عِلْمَي الأُصُوْلِ وَالفُرُوْعِ، وَعَلَيْهِ تَفقَّهْتُ، وَعرضتُ عَلَيْهِ "الخُلاَصَة" لِلْغزَالِيِّ، وَدفنَ عِنْدَ شَيْخِهِ القُطْبِ.
قُلْتُ: حَدَّثَ عَنْهُ البِرْزَالِيُّ، وَالضِّيَاءُ، وَالزَّيْنُ خَالِدٌ، وَالقُوْصِيُّ، وَابْنُ العَدِيْمِ، وَالتَّاجُ عَبْدُ الوَهَّابِ ابْنُ زَينِ الأُمَنَاءِ، وَالقَاضِي كَمَالُ الدِّيْنِ إِسْحَاقُ بنُ خَلِيْلٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَسَمِعنَا بِإِجَازتِهِ مِنْ عُمَرَ ابْنِ القَوَّاسِ، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّيْنِ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، وَغَيْرُهُ.
وَفِيْهَا مَاتَ: الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّيْنِ المَقْدِسِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ ظَفَرِ بنِ هُبَيْرَةَ، وَصَالِحُ بنُ القَاسِمِ بنِ كَوّر، وَالحُسَيْنُ بنُ يَحْيَى بنِ أَبِي الرَّدَّادِ المِصْرِيُّ، وَأَكْمَلُ بنُ أَبِي الأَزْهَرِ العَلَوِيُّ الكَرْخِيُّ، وَعَبْدُ السَّلاَمِ بنُ المُبَارَكِ البَرْدَغولِيُّ، وَصَاحِبُ الغَرْبِ يُوْسُفُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوْبَ.