قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ: رَكَنَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ رُكُوناً تَامّاً، وَتَقدَّمَ عِنْدَهُ كَثِيْراً، وَكَانَ كَثِيْرَ البِرِّ، وَلَهُ آثَارٌ جَمِيْلَةٌ. تُوُفِّيَ لَيْلَةَ سَابعِ رَبِيْعٍ الآخر سنة ست وتسعين وخمس مائة.

وَقَالَ المُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ: كَانُوا ثَلاَثَةَ إخوَةٍ:

أَحَدهُم: خدَمَ بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخلَّفَ مِنَ الخوَاتِيمِ صنَادِيقَ، وَمِنَ الحُصْرِ وَالقُدُورِ بُيُوتاً مَمْلُوْءةً، وَكَانَ مَتَى سَمِعَ بِخَاتمٍ، سَعَى فِي تحصيلِهِ.

وَأَمَّا الآخَرُ: فَكَانَ لَهُ هَوَسٌ مُفْرِطٌ فِي تحصيلِ الكُتُبِ، عِنْدَهُ نَحْوُ مائَتَيْ أَلف كِتَاب.

وَالثَّالِثُ: القَاضِي الفَاضِلُ كَانَ ذَا غرَامٍ بِالكِتَابَةِ وَبِالكُتُبِ أَيْضاً، لَهُ الدِّينُ، وَالعفَافُ، وَالتُّقَى، موَاظِبٌ عَلَى أَورَادِ اللَّيْلِ وَالصِّيَامِ وَالتِّلاَوَةِ. لَمَّا تَملَّكَ أَسَدُ الدِّيْنِ، أَحضرَهُ، فَأُعْجِبَ بِهِ، ثُمَّ اسْتخلَصَهُ صَلاَحُ الدِّيْنِ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ قَلِيْلَ اللَّذَّاتِ، كَثِيْرَ الحَسَنَاتِ، دَائِمَ التَّهَجُّدِ، يَشتغلُ بِالتَّفْسِيْرِ وَالأَدبِ، وَكَانَ قَلِيْلَ النَّحْوِ، لَكنَّهُ لَهُ دُرْبَةٌ قويَّةٌ، كتبَ مِنَ الإِنشَاءِ مَا لَمْ يَكتبْهُ أَحَدٌ، أَعْرِفُ عِنْدَ ابْنِ سنَاء الملكِ مِنْ إِنشَائِهِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِيْنَ مُجَلَّداً، وَعِنْدَ ابْنِ القَطَّانِ عِشْرِيْنَ مُجَلَّداً، وَكَانَ مُتَقَلِّلاً فِي مطعَمِهِ وَمنكحِهِ وَملبسِهِ، لباسُهُ البيَاضُ، وَيَرْكُبُ مَعَهُ غُلاَمٌ وَركَابِيٌّ، وَلاَ يَمكِّنُ أَحَداً أَنْ يَصحبَهُ، وَيُكْثِرُ تَشييعَ الجَنَائِزِ، وَعيَادَةَ المَرْضَى، وَلَهُ معروف مَعْرُوفٌ فِي السِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ، ضَعِيْفُ البُنْيَةِ، رقيقُ الصُّوْرَةِ، لَهُ حَدْبَةٌ يُغَطِّيهَا الطَّيْلَسَانُ، وَكَانَ فِيْهِ سُوءُ خُلُقٍ يُكْمِدُ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يضرُّ أَحَداً بِهِ، وَلأَصْحَابِ العِلْمِ عِنْدَهُ نفَاقٌ، يُحْسِنُ إِلَيْهِم، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ انتقَامٌ مِنْ أَعدَائِهِ إلَّا بِالإِحسَانِ أَوِ الإِعرَاضِ عَنْهُم، وَكَانَ دَخْلُهُ وَمَعْلُوْمُهُ فِي العَامِ نَحْواً مِنْ خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ سِوَى مَتَاجر الهِنْدِ وَالمَغْرِبِ. تُوُفِّيَ مَسْكُوتاً، أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى المَوْتِ عِنْدَ تَوَلِّي الإِقبالِ وَإِقبالِ الإِدبارِ، وَهَذَا يَدلُّ عَلَى أَنَّ لله به عنايةً.

قَالَ العِمَادُ: تَمَّتِ الرَّزِيَّةُ بَانتقَالِ القَاضِي الفَاضِلِ مِنْ دَارِ الفنَاءِ إِلَى دَارِ البقَاءِ فِي مَنْزِلِهِ بِالقَاهِرَةِ فِي سَادسِ رَبِيْعٍ الآخَرَ، وَكَانَ لَيْلَتَئِذٍ صَلَّى العشَاءَ، وَجَلَسَ مَعَ مُدَرِّسِ مَدْرَسَتِهِ، وَتحدَّثَ مَعَهُ مَا شَاءَ، وَانفصلَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَحِيْحاً، وَقَالَ لغُلاَمِهِ: رَتِّبْ حوَائِجَ الحَمَّامِ، وَعرفنِي حَتَّى أَقضِي مُنَى المَنَامِ، فَوَافَاهُ سَحَراً، فَمَا اكترَثَ بصوتِهِ، فَبَادَرَ إِلَيْهِ وَلدُهُ، فَأَلفَاهُ وَهُوَ سَاكِتٌ باهِتٌ، فَلبثَ يَوْمَهُ لاَ يُسْمَعُ لَهُ إلَّا أَنِيْنٌ خفِيٌّ، ثُمَّ قضَى رَحِمَهُ الله.

قيل: وَقَفَ مُنَجِّمٌ عَلَى طَالعِ القَاضِي، فَقَالَ: هَذِهِ سعَادَةٌ لاَ تَسَعُهَا عَسْقَلاَنُ.

حفظَ القُرْآنَ، وَكَتَبَ ختمَةً، وَوقفَهَا، وَقرَأَ "الجمعَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ" عَلَى ابْنِ فَرحٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الحُمَيْدِيِّ، وَصَحِبَ أَبَا الفَتْحِ مَحْمُوْدَ بنَ قَادوس المنشِئ، وَكَانَ مَوْتُ أَبِيْهِ سَنَة46، وَكَانَ لَمَّا جرَى عَلَى أَبِيْهِ نَكبَةً اتَّصَلَتْ بِمَوْتِهِ، ضُرِبَ، وَصُودِرَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْء، وَمَضَى إِلَى الإسكندرية، وصحب بني حديد، فاستخدموه.

قال جماد الدِّيْنِ ابْنُ نُبَاتَةَ: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَعَاليقِ القَاضِي: لَمَّا رَكِبْتُ البَحْرَ مِنْ عَسْقَلاَنَ إِلَى الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، كَانَتْ مَعِي رزمَةٌ فِيْهَا ثِيَابٌ، وَرزمَةٌ فِيْهَا مُسَوَّدَاتٌ، فَاحتَاجَ الرُّكَّابُ أَنْ يُخَفِّفُوا، فَأَردتُ أَنْ أَرمِي رزمَةَ المُسَوَّدَاتِ، فَغلِطْتُ، وَرَمَيْتُ رزمَةَ القِمَاشِ.

وَذَكَرَ القَاضِي ابْنُ شَدَّادٍ أَنَّ دَخْلَ القَاضِي كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِيْنَ دِيْنَاراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015