ذَلِكَ حبّ الرِّئَاسَة وَالتَّقَدُّم، بَلْ قُلْتُ: مَتَى أَروِي كُلّ مَا قَدْ سمِعته، وَأَيُّ فَائِدَة فِي كَونِي أُخلِّفُهُ بَعْدِي صَحَائِف? فَاسْتَخرتُ الله، وَاسْتَأْذنت أَعيَان شُيُوْخِي وَرُؤَسَاء البَلَد، وَطُفت عَلَيْهِم، فُكُلٌّ قَالَ: وَمَنْ أَحقّ بِهَذَا مِنْكَ? فَشرعت فِي ذَلِكَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِيْنَ، فَقَالَ لِي وَالِدِي أَبُو القَاسِمِ الحَافِظُ: قَالَ لِي جَدِّي القَاضِي أَبُو المُفَضَّل لَمَّا قَدَمت مِنْ سفرِي: اجْلِسْ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ هَذِهِ السَّوَارِي حَتَّى نَجلس إِلَيْك، فَلَمَّا عزمت عَلَى الجُلُوْس اتَّفَقَ أَنَّهُ مرضَ، وَلَمْ يُقدَّرْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الخُرُوجُ إِلَى المَسْجَد ...
إِلَى أَنْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ القَاسِم: وَكَانَ أَبِي -رَحِمَهُ اللهُ- قَدْ سَمِعَ أَشيَاء لَمْ يُحصِّلْ مِنْهَا نُسَخاً اعتمَاداً عَلَى نسخ رفِيقه الحَافِظ أَبِي عَلِيٍّ بنِ الوَزِيْر، وَكَانَ مَا حَصلَه ابْن الوَزِيْر لاَ يُحصله أَبِي، وَمَا حَصلَه أَبِي لاَ يُحصله ابْن الوَزِيْر، فَسَمِعْتُ أَبِي لَيْلَة يَتحدّث مَعَ صَاحِب لَهُ فِي الجَامِع، فَقَالَ: رحلتُ وَمَا كَأَنِّيْ رحلتُ، كُنْت أَحسب أَنَّ ابْنَ الوَزِيْر يَقدَمُ بِالكُتُب مِثْل الصَّحِيْحَيْنِ وَكُتُبِ البَيْهَقِيّ وَالأَجزَاء، فَاتَّفَقَ سُكنَاهُ بِمَرْوَ، وَكُنْت أُؤمل وُصُوْل رفِيق آخر لَهُ يُقَالَ لَهُ: يُوْسُف بن فَارّوا الجَيَّانِيّ، وَوُصُوْل رَفِيقنَا أَبِي الحَسَنِ المُرَادِيّ، وَمَا أَرَى أَحَداً مِنْهُم جَاءَ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الرّحلَة ثَالِثَةً وَتَحصيل الكُتُب وَالمهمَات. قَالَ: فَلَمْ يَمض إلَّا أَيَّام يَسِيْرَة حَتَّى قَدِمَ أَبُو الحَسَنِ المُرَادِيّ، فَأَنْزَلَهُ أَبِي فِي مَنْزِلنَا، وَقَدِمَ بِأَرْبَعَة أَسفَاط كتب مَسْمُوْعَة، فَفَرح أَبِي بِذَلِكَ شدِيداً، وَكفَاهُ الله مُؤنَة السَّفَر، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلْكَ الكُتُب، فَنسخ وَاستنسخَ وَقَابَلَ، وَبَقِيَ مِنْ مَسْمُوْعَاته أَجزَاء نَحْو الثَّلاَث مائَة، فَأَعَانه عَلَيْهَا أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، فَنقل إِلَيْهِ مِنْهَا جُمْلَةً حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ عِشْرِيْنَ جُزْءاً، وَكَانَ كُلَّمَا حصل لَهُ جُزْء مِنْهَا كَأَنَّهُ قَدْ حصل عَلَى ملك الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: قَرَأْت بِخَطِّ مَعْمَر بن الفَاخِرِ في "معجمه": أخبرني أَبُو القَاسِمِ الحَافِظُ إِمْلاَءً بِمِنَى وَكَانَ مِنْ أَحْفَظ مَنْ رَأَيْتُ وَكَانَ شَيْخنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِمَام يُفضله عَلَى جَمِيْع مَنْ لقينَاهُم، قَدِمَ أَصْبَهَان وَنَزَلَ فِي دَارِي، وَمَا رَأَيْتُ شَابّاً أَحْفَظَ وَلاَ أَورعَ وَلاَ أَتقنَ مِنْهُ، وَكَانَ فَقِيْهاً أَدِيباً سَنِيّاً، سَأَلتُه عَنْ تَأَخُّره عَنِ الرّحلَة إِلَى أَصْبَهَانَ، قَالَ: اسْتَأَذنتُ أُمِّي في الرحلة إليها، فما أذنت.
وقال السَّمْعَانِيُّ: أَبُو القَاسِمِ كَثِيْرُ العِلْمِ، غزِيْر الفَضْل، حَافِظ مُتْقِن، ديِّن خَيِّر، حسن السَّمْت، جَمع بَيْنَ مَعْرِفَة المُتُوْنِ وَالأَسَانِيْد، صَحِيْح القِرَاءة، متثبِّت مُحتَاط ... إِلَى أَنْ قَالَ: جَمع مَا لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُ، وَأَرْبَى عَلَى أَقرَانِهِ، دَخَلَ نَيْسَابُوْرَ قَبْلِي بِشَهْرٍ، سَمِعْتُ مِنْهُ، وَسَمِعَ مِنِّي، وَسَمِعْتُ منه معجمه، وحصل لي بدمشق نسخة به، وَكَانَ قَدْ شَرَعَ فِي التَّارِيْخِ الكَبِيْرِ لِدِمَشْقَ، ثُمَّ كَانَتْ كُتُبُه تَصِلُ إِلَيَّ، وَأُنفذُ جَوَابَهَا.