عَنْهُ، وَقَعَدَ الصَّبيّ سَالِماً، فَذَهَبَ أَبُوْهُ إِلَى زَاجر، فَذَكَر لَهُ مَا جرَى، فَقَالَ: يُوشك أَنْ يَكُوْنَ لابنِكَ شَأْن، يَجتمع عَلَيْهِ طَاعَة أَهْل المَغْرِب.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ تُوْمَرْت قَدْ سَافر فِي حُدُوْدِ الخَمْس مائَة إِلَى المَشْرِق، وَجَالَس العُلَمَاء، وَتزَهَّد، وَأَقْبَلَ عَلَى الإِنْكَار عَلَى الدَّوْلَة بِالإِسْكَنْدَرِيَّة وَغَيْرهَا، فَكَانَ يُنفَى وَيُؤذَى، فَفِي رجعته إلى إفريقية هو ورفيقه الشَّيْخ عُمَر الهِنْتَاتِيّ صَادفَ عَبْد المُؤْمِنِ، فَحَدثه وَوَانسه، وَقَالَ: إِلَى أَيْنَ تُسَافر? قَالَ: أَطلب العِلْم. قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ طَلِبَتَكَ. فَفَقهه، وَصحبه، وأحبه، وأقضى إِلَيْهِ بِأَسرَاره لِمَا رَأَى فِيْهِ مِنْ سِمَاتَ النّبل، فَوَجَد همَّته كَمَا فِي النَّفْس، فَقَالَ ابْنُ تُوْمَرْتَ يَوْماً لخوَاصه: هَذَا غَلاَّب الدُّول. وَمَضَوا إِلَى جبل تِيْنمَلّ بِأَقْصَى المَغْرِب، فَأَقْبَل عَلَيْهِم البَرْبَر، وَكثرُوا، وَعَسْكَرُوا، وَشَقُّوا العصَا عَلَى ابْنِ تَاشفِيْن، وَحَاربوهُ مَرَّات، وَعظم أَمرهُم، وَكثرت جُمُوْعهُم، وَاسْتفحل أَمرهُم، وَخَافتهُم المُلُوْك، وَآل بِهِم الحَال إِلَى الاسْتيلاَء عَلَى المَمَالِك، وَلَكِن مَاتَ ابْنُ تُوْمَرْتَ قَبْل تَمكُّنِهِم فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ. وَكَانَتْ وَقْعَة البُحَيْرَة بِظَاهِر مَرَّاكُش بَيْنَ ابْن تَاشفِيْن صَاحِب المَغْرِب وَبَيْنَ أَصْحَاب ابْن تُوْمَرْت فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ، فَانْهَزَم فِيْهَا الموحدُوْنَ، وَاسْتَحَرَّ بِهِم الْقَتْل، وَلَمْ يَنج مِنْهُم إلَّا نَحْو مِنْ أَرْبَع مائَة مقَاتل، وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ تُوْمَرْتَ كتمُوا مَوْتَه، وجعلوا يخرون مِنَ البَيْت، وَيَقُوْلُوْنَ: قَالَ المَهْدِيّ كَذَا، وَأَمر بِكَذَا، وَبَقِيَ عَبْد المُؤْمِنِ يُغِير فِي عَسْكَره عَلَى القرَى، وَيَعيشُوْنَ مِنَ النّهب، وَضَعف أَمرهُم، وَكَذَلِكَ اخْتلف جَيْش ابْن تَاشفِيْن الَّذِيْنَ يُقَالُ لَهُم: المُرَابِطُوْنَ، وَيُقَالُ لَهُم: الملثمُوْنَ، فَخَامر مِنْهُم الفلاَكِيُّ مِنْ كِبَارهِم، وَسَارَ إِلَى عَبْدِ المُؤْمِنِ، فَتلقَّاهُ بِالاحْتِرَامِ، وَاعتضد بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْد خَمْسَة أَعْوَام أَفصحُوا بِمَوْتِ ابْنِ تُوْمَرْت، وَلَقَّبُوا عَبْدَ المُؤْمِنِ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَصَارَت حُصُوْنُ الفلاَكِي لِلموحِّدين، وَأَغَارُوا عَلَى نوَاحِي أَغمَات وَالسوس الأَقْصَى، واستفحل بهم البلاء.
وَقَالَ صَاحِب "الْمُعْجب" عَبْد الوَاحِدِ المَرَّاكُشِيُّ: اسْتدعَى ابْن تُوْمَرْت قَبْل مَوْته الرِّجَال المُسَمَّين بِالجَمَاعَة وَأَهْلَ الخَمْسِيْنَ وَالثَّلاَثَةَ عُمَر أَرتَاج، وَعُمَر إِيْنْتِي، وَعَبْدَ اللهِ بنَ سُلَيْمَانَ، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ، وَلَهُ الْحَمد- مَنَّ عَلَيْكُم أَيَّتُهَا الطَّائِفَة بتَأْيِيْدِه، وَخصكم بِحقيقَةِ تَوحيدِه، وَقيض لَكُم منْ أَلفَاكُم ضُلاَّلاً لاَ تَهتدُوْنَ، وَعُمياً لاَ تُبصرُوْنَ، قَدْ فَشت فِيْكُم البِدَع، وَاسْتهوتكُم الأَبَاطيل، فَهدَاكُم الله بِهِ، وَنَصَركُم، وَجَمَعكُم بَعْد الفُرقَة، وَرَفَعَ عَنْكُم سُلْطَان هَؤُلاَءِ المَارقينَ، وَسَيُورِّثُكُم أَرْضَهُم وَدِيَارَهُم، ذَلِكَ بِمَا كسبت أَيدِيهِم، فَجَدَّدُوا للهِ خَالِصَ نِيَّاتِكُم، وَأَرُوهُ مِنَ الشّكر قَوْلاً وَفعلاً مِمَّا يُزكِي بِهِ سعيكُم، وَاحذرُوا الفرقَة، وَكونُوا يَداً وَاحِدَة عَلَى عَدُوّكُم، فَإِنَّكُم إِنْ فَعَلتُم ذَلِكَ هَابكُمُ النَّاس، وَأَسرعُوا إِلَى