فَمَحنَ، وَجَرَى فِي أَعْرَاض الإِمَارَة فَلحن، وَأَصْبَح تَتحرك بآثَاره الأَلسِنَة، وَيَأْتِي بِمَا أَجرَاهُ عَلَيْهِ الْقدر النَّومُ وَالسِّنَةُ، وَمَا أَرَادَ إلَّا خَيراً، نصب السُّلْطَان عَلَيْهِ شبَاكه، وَسكَّنَ الإِدبار حرَاكه، فأبداه للناس صورةً تُذمُّ، وَسُوْرَة تَتلَى، لِكَوْنِهِ تَعلّق بِأَذْيَال المُلك، وَلَمْ يَجر مجرَى العُلَمَاء فِي مُجَاهِرَة السَّلاَطِيْن وَحِزْبِهِم، بَلْ دَاهن، ثُمَّ انْتقل إِلَى قُرْطُبَة مُعَظَّماً مُكرَّماً حَتَّى حُوِّلَ إِلَى العُدوَة، فَقَضَى نَحْبَه.
قَرَأْت بِخَطِّ ابْنِ مَسدِي فِي مُعْجَمِهِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُفرج النَّبَاتِيّ، سَمِعْتُ ابْنَ الجَدِّ الحَافِظَ وَغَيْرَه يَقُوْلُوْنَ: حضَر فُقَهَاء إِشْبِيْلِيَة: أَبُو بَكْرٍ بن المُرَجَّى وَفُلاَن وَفُلاَن، وَحضر مَعَهُم ابْن العَرَبِيِّ، فَتذَاكرُوا حَدِيْث الْمِغْفَر1، فَقَالَ ابْنُ المُرَجَّى: لاَ يُعرفُ إلَّا مِنْ حَدِيْثِ مَالِك عَنِ الزُّهْرِيِّ. فَقَالَ ابْنُ العَرَبِيّ: قَدْ رويته مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ طرِيقاً غَيْر طَرِيْق مَالِك. فَقَالُوا: أَفدنَا هَذَا. فَوَعَدهُم، وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُم شَيْئاً، وَفِي ذَلِكَ يَقُوْلُ خَلَف بن خَيْر الأَدِيْب:
يَا أَهْل حِمْصَ وَمِنْ بِهَا أُوصيكم ... بِالبر وَالتَّقْوَى وَصيَة مُشْفِقِ
فَخذُوا عَنِ العربِي أَسمَار الدجَى ... وَخذُوا الرِّوَايَة عَنْ إمامٍ متقِ
إِنَّ الفَتَى حُلْو الكَلاَم مهذّبٌ ... إِنْ لَمْ يَجِدْ خَبَراً صَحِيْحاً يَخلقِ
قُلْتُ: هَذِهِ حِكَايَة سَاذجَة لاَ تَدُلُّ عَلَى تَعمد، وَلَعَلَّ القَاضِي -رَحِمَهُ اللهُ- وَهِم، وَسرَى ذِهْنه إِلَى حَدِيْث آخر، وَالشَّاعِر يَخلق الإِفك، وَلَمْ أَنقُمْ عَلَى القَاضِي -رَحِمَهُ اللهُ- إلَّا إِقذَاعَه فِي ذَمّ ابْن حَزْمٍ وَاسْتجهَالَه لَهُ، وابن حزم أوسع دَائِرَة مِنْ أَبِي بَكْرٍ فِي العُلُوْم، وَأَحْفَظ بِكَثِيْر، وَقَدْ أَصَاب فِي أَشيَاء وَأَجَاد، وَزلق فِي مضَايق كغَيْره مِنَ الأَئِمَّةِ، وَالإِنصَافُ عزِيز.
قَالَ أَبُو القَاسِمِ بنُ بَشْكُوَال: تُوُفِّيَ ابْنُ العَرَبِيّ بفَاس فِي شَهْرِ رَبِيْعٍ الآخِرِ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ. وَفِيْهَا وَرخه الحَافِظُ أَبُو الحَسَنِ بنُ المُفَضَّلِ وَابْن خَلِّكَانَ.
وَفِيْهَا تُوُفِّيَ المُسْنِدُ الكَبِيْر أَبُو الدُّرّ يَاقُوْت الرُّوْمِيّ السفار صاحب ابن هزارمرد، والمعمر