وَيُذكرُ عَنْهُ رِقَّةُ دِيْنٍ. قَالَ: وَكَانَ يَعرفُ الفقه على مذهب أَحْمَدَ، وَالفَرَائِض وَالحسَابَ وَالهَنْدَسَةَ، وَيَشْهَدُ عِنْد القُضَاةِ، وَيَنْظرُ فِي وُقُوفِ البَيْمَارَسْتَانِ العضديّ.
وَقَالَ أَبُو مُوْسَى المَدِيْنِيُّ: كَانَ إِمَاماً فِي فُنُوْنٍ، وَكَانَ يَقُوْلُ: حفظتُ القُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعٍ، وَمَا مِنْ علمٍ إلَّا وَقَدْ نَظرتُ فِيْهِ، وَحصَّلْتُ مِنْهُ الكُلَّ أَوِ البَعْضَ، إلَّا هَذَا النَّحْوَ، فَإِنِّي قَلِيْلُ البِضَاعَةِ فِيْهِ، وَمَا أَعْلَمُ أَنِّي ضَيَّعْتُ سَاعَةً مِنْ عُمُرِي فِي لَهْوٍ أَوْ لَعِبٍ.
وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: ذَكَرَ لَنَا أَبُو بَكْرٍ القَاضِي أَنَّ مُنَجِّمَيْنِ حضَرَا عِنْد وِلاَدتِي، فَأَجْمَعَا عَلَى أَنَّ العُمُرَ اثنتَانِ وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، فَهَا أَنَا قَدْ جَاوَزْتُ التِّسْعِيْنَ.
قُلْتُ: هَذَا يَدلُّ عَلَى حُسنِ مُعتقدِهِ.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: كان حَسَنَ الصُّوْرَةِ، حُلوَ المنطقِ، مليحَ المُعَاشَرَةِ، كَانَ يُصَلِّي فِي جَامِعِ المَنْصُوْر، فَيجِيْء فِي بَعْضِ الأَيَّامِ، فَيَقِفُ وَرَاءَ مَجْلِسِي وَأَنَا أَعظُ، فَيُسلِّم عليَّ. اسْتملَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا ابْنُ نَاصرٍ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الكَثِيْرَ، وَكَانَ ثِقَةً فَهِماً، ثَبْتاً حُجَّةً، مُتفنِّناً، مُنْفَرِداً فِي الفَرَائِضِ، قَالَ لِي يَوْماً: صَلَّيْتُ الجُمُعَةَ، وَجلَسْتُ أَنظر إِلَى النَّاسِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَودُّ أَنْ أَكُوْنَ مِثْلَهُ، وَكَانَ قَدْ سَافرَ، فَوَقَعَ فِي أَسْرِ الرُّوْمِ، وَبَقِيَ سَنَةً وَنِصْفاً، وَقَيَّدُوْهُ وَغَلُّوْهُ، وَأَرَادُوْهُ عَلَى كلمَةِ الكُفْرِ، فَأَبَى، وَتَعَلَّمَ مِنْهُم الخطَّ الرُّوْمِيَّ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَنْ خَدَمَ المحَابرَ، خَدَمَتْهُ المَنَابِرُ، يَجِبُ عَلَى المُعَلِّمِ أَنْ لاَ يُعَنِّفَ، وَعَلَى المتعلِّمِ أَنْ لاَ يَأْنفَ. وَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً صَحِيْحَ الحوَاسِّ لَمْ يَتغَيَّرْ مِنْهَا شَيْءٌ، ثَابِتَ العَقْلِ، يَقرَأُ الخطَّ الدَّقيقَ مِنْ بُعْدٍ، وَدخلنَا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَيدَةٍ، فَقَالَ: سَالَتْ فِي أُذُنِي مَادَّةٌ، فَقَرَأَ عَلَيْنَا مِنْ حَدِيْثِهِ، وَبَقِيَ عَلَى هَذَا نَحْواً مِنْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ مرضَ، فَأَوْصَى أَنْ يُعمَّقَ قَبْره زِيَادَةً عَلَى العَادَة، وَأَنَّ يُكتبَ عَلَى قَبْرِهِ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67و 68] وَبَقِيَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يَفتُرُ مِنْ قِرَاءة القُرْآنِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ قَبْلَ الظُّهْر, ثَانِي رَجَب سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاَثِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَجْمَعَ لِلْفنُوْنِ مِنْهُ، نَظَرَ فِي كُلِّ علمٍ، فَبرعَ فِي الحسَابِ وَالفَرَائِضِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: تُبتُ مِنْ كُلِّ علمٍ تَعلَّمتُهُ إلَّا الحَدِيْثَ وَعِلمَهُ، وَرَأَيْتهُ وَمَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ مِنْ حَوَاسِّهِ شَيْءٌ، وَكَانَ يَقرَأُ الخَطَّ البعيدَ الدَّقيق، وَكَانَ سرِيعَ النَّسْخِ، حَسَنَ القِرَاءة لِلْحَدِيْثِ، وَكَانَ يَشتَغِلُ بِمُطَالَعَة الأَجزَاءِ الَّتِي مَعِي, وَأَنَا مُكِبٌّ عَلَى القِرَاءةِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَجَدَ جُزْءاً مِنْ حَدِيْثِ الخُزَاعِيِّ قَرَأْتُهُ بِالكُوْفَةِ عَلَى عُمَرَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ العَلَوِيِّ بِإِجَازتِهِ مِنْ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَلَوِيُّ، وَفِيْهِ حِكَايَاتٌ مليحَةٌ، فَقَالَ: دَعْهُ عِنْدِي. فَرَجَعتُ مِنَ الغَدِ،