قَالَ: فَالَّذِي صَحَّ عِنْدِي أَنَّهُم قُتِلَ مِنْهُم سَبْعُوْنَ أَلْفاً عَلَى هَذِهِ الصِّفَة، وَيُسمونه التّمْيِيْز، فَلَمَّا كَمُلَ التَّمْيِيْز، وَجَّه جُمُوْعه مَعَ البَشِيْر نحو أغمات، فالتفاهم المرَابطون، فَهَزَمَهُمُ المرَابطون، وَثبت خلقٌ مِنَ المصَامدة، فَقُتِلُوا، وَجُرِحَ عُمَر الهِنْتَانِي عِدَّةَ جِرَاحَات، فَحُمِلَ على أَعْنَاقِهِم مُثْخَناً، فَقَالَ لَهُم البَشِيْر: إِنَّهُ لاَ يَموتُ حَتَّى تُفتح البِلاَد. ثُمَّ بَعْدَ مُدَّة، فَتح عينِيه، وَسلَّم، فَلَمَّا أَتَوْا، عَزَّاهُم ابْن تُوْمرت، وَقَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ، وَكَذَلِكَ حربُ الرُّسل.
وَقَالَ عبدُ الوَاحِد المَرَّاكُشِي: سَمِعَ ابْنَ تُوْمرت بِبَغْدَادَ مِنَ المُبَارَك بن الطُّيُورِي، وَأَخَذَ الأُصُوْلَ عَنِ الشَّاشِيّ، وَنَفَاهُ مِنَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَمِيْرُهَا، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ اسْتمرَّ يُنكر فِي الْمركب، فَأَلْقَوْهُ، فَأَقَامَ نِصْفَ يَوْم يَعوم، فَأَنْزَلُوا مَنْ أَطلعه، وَاحتَرَمُوْهُ، فَنَزَلَ بِبِجَايَة، فَدرَّس وَوعظ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، فَخَافَ صَاحِبُهَا، وَأَخْرَجه، وَكَانَ بارعاً فِي خطِّ الرَّمل.
وَقِيْلَ: وَقَعَ بِالجفر، وَصَادف عبدَ المُؤْمِن، ثُمَّ لقيهُمَا عبدُ الوَاحِد الشَّرْقِيّ، فَسَارُوا إِلَى أَقْصَى المَغْرِب.
وَقِيْلَ: لقِيَ عبدَ المُؤْمِن يُؤدِّب بِأَرْضِ متيّجَة، وَرَأَى عبدَ المُؤْمِن أَنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ الْملك عَلِيٍّ بن تَاشفِيْن، وَأَنَّهُ زَادَ عَلَى أَكله، ثُمَّ اخْتطف مِنْهُ الصّحفَةَ، فَقَالَ لَهُ العَابر: لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُوْن هَذِهِ الرُّؤيَا لَكَ، بَلْ لِمَنْ يَثُوْرُ عَلَى أَمِيْرِ المُسْلِمِين إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى بلاَده.
وَكَانَ ابْنُ تُوْمرت طَوِيْلَ الصَّمْت، دَائِمَ الِانْقِبَاض، لَهُ هَيْبَةٌ فِي النُّفُوْس، قِيْلَ لَهُ مرَّة: فُلاَن مسجُوْنٌ، فَأَتَى الحَبْسَ، فَابْتدر السجَانُوْنَ يَتمسَّحُوْنَ بِهِ، فَنَادَى: فُلاَن, فَأَجَابَهُ، فَقَالَ: اخْرج، فَخَرَجَ، وَالسَّجَّانُوْنَ باهتُوْنَ، فَذَهَبَ بِهِ، وَكَانَ لاَ يَتعذر عَلَيْهِ أَمرٌ، وَانفصل، عَنْ تِلمسَان وَقَدِ اسْتحوذ عَلَى قلوبِ كُبرَائِهَا، فَأَتَى فَاس، وَأَخَذَ فِي الأَمْر بِالمَعْرُوف.
قَالَ: وَكَانَ جلُّ مَا يَدعُو إِلَيْهِ الاعتقَادَ عَلَى رَأْي الأَشْعَرِيّ، وَكَانَ أَهْلُ الغَرْب ينَافِرُوْنَ هَذِهِ العُلُوْم، فَجمعَ مُتَوَلِّي فَاس الفُقَهَاء، وَنَاظروهُ، فَظَهَرَ، وَوجد جَوّاً خَالياً، وَقوماً لاَ يَدرُوْنَ الكَلاَمَ، فَأَشَارُوا عَلَى الأَمِيْرِ بِإِخرَاجه، فَسَارَ إِلَى مَرَّاكُش، فَبعثَوا بِخَبَرِهِ إِلَى ابْنِ تَاشفِيْن، فَجمعَ لَهُ الفُقَهَاءَ، فنَاظره ابْنُ وُهَيْب الفَيْلَسُوْف، فَاسْتشعر ذكَاءهُ وَقُوَّةَ نَفْسه، فَأَشَارَ عَلَى ابْنِ تَاشفِيْن بِقَتْلِهِ، وَقَالَ: إِنّ وَقَعَ إِلَى المصَامدة، قَوِيَ شرُّه، فَخَافَ الله فِيْهِ، فَقَالَ: فَاحبسه، قَالَ: كَيْفَ أَحبِسُ مسلماً لَمْ يَتعين لَنَا عَلَيْهِ حقٌّ؟ بَلْ يُسَافر. فَذَهَبَ وَنَزَلَ بِتِينَمَلَل، وَمِنْهُ ظهر، وَبِهِ دُفِنَ، فَبثَّ فِي المصَامدة العِلْم، وَدعَاهُم إِلَى الأَمْر بِالمَعْرُوف، وَاسْتمَالهُم وَأَخَذَ يُشوِّق إِلَى المَهْدِيّ، وَيَرْوِي أَحَادِيْثَ فِيْهِ، فَلَمَّا تَوثَّق مِنْهُم قَالَ: أَنَا هُوَ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وَسَاقَ نسباً لَهُ إِلَى عليّ، فَبَايعُوْهُ، وَأَلف لَهُم كِتَابَ "أَعزّ مَا يَطلب"، ووافق المعتزلة