وَكَانَ لَهُ ذكاءٌ وَفِطْنَة وَتَصرُّف، وَقُدرَة عَلَى إِنشَاء الكَلاَم، وَتَأْلِيفِ المَعَانِي، وَدَخَلَ فِي عُلُوْمِ الأَوَائِل.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْتَعمَالُ عبَارَاتِهم فِي كُتُبِهِ، وَاسْتُدْعِيَ لِتَدْرِيْس النِّظَامِيَة بِبَغداد فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ غلبت عَلَيْهِ الخلوَةُ، وَترك التَدْرِيْسَ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ الخشنَةَ، وَتَقلَّل فِي مَطْعُومه.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاورَ بِالقُدْس، وَشرع فِي "الإِحيَاء" هُنَاكَ -أَعنِي: بِدِمَشْقَ- وَحَجَّ وَزَار، وَرجع إِلَى بَغْدَادَ، وَسُمِعَ مِنْهُ كِتَابُهُ "الإِحيَاء"، وَغَيْرُهُ، فَقَدْ حَدَّثَ بِهَا إِذاً، ثُمَّ سَرَدَ تَصَانِيْفَه.
وَقَدْ رَأَيْت كِتَابَ "الْكَشْف وَالإِنبَاء عَنْ كِتَاب الإِحيَاء" لِلمَازَرِي، أَوله: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنَار الحَقَّ وَأَدَالَه، وَأَبَارَ البَاطِلَ وَأَزَاله، ثُمَّ أَوْرَد المَازَرِي أَشيَاءَ مِمَّا نَقدَه عَلَى أَبِي حَامِد، يَقُوْلُ: وَلَقَدْ أَعْجَبُ مِنْ قَوْم مالكيةٍ يَرَوْنَ مَالِكاً الإِمَام يَهْرُبُ مِنَ التّحديد، وَيُجَانب أَنْ يَرْسُمَ رسماً، وَإِنْ كَانَ فِيْهِ أثرٌ مَا، أَوْ قياسٌ مَا، تَوَرُّعاً وَتحفظاً مِنَ الفَتْوَى فِيمَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْتَحسنُوْنَ مِنْ رَجُل فَتَاوَى مبنَاهَا عَلَى مَا لاَ حقيقَة لَهُ، وَفِيْهِ كَثِيْرٌ مِنَ الآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفَّق فِيْهِ الثَّابتَ بِغَيْرِ الثَّابت، وَكَذَا مَا أَوْرَد عَنِ السَّلَفِ لاَ يَمكن ثبوتُهُ كُلُّه، وَأَوْرَدَ مِنْ نَزغَاتِ الأَوليَاء وَنفثَات الأَصفِيَاء مَا يَجِلُّ موقِعُه، لَكِن مزج فِيْهِ النَّافِعَ بِالضَّار، كَإِطلاَقَات يَحكيهَا عَنْ بعضهِم لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهَا لِشنَاعتهَا، وَإِنْ أُخذت معَانِيْهَا عَلَى ظوَاهرهَا، كَانَتْ كَالرموز إِلَى قدح الْمُلْحِدِينَ، وَلاَ تَنْصَرِفُ مَعَانِيْهَا إِلَى الحَقّ إلَّا بِتعسُّف عَلَى اللَّفْظ مِمَّا لاَ يَتكلف العُلَمَاءُ مِثْله إلَّا فِي كَلاَم صَاحِب الشَّرع الَّذِي اضْطرَّتْ المعجزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صدقه المَانعَة مِنْ جَهله وَكذبه إِلَى طلب التَّأْوِيْل، كَقَوْلِه: "إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَن" 1، وَ "إِنَّ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع" 2، وَكقوله: "لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ" 3، وَكقوله: "يَضْحَكُ الله" 4، إلى غير ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيْثِ الوَارد ظَاهِرُهَا بِمَا أَحَاله العقل.