فَلَو كَانَ -وَاللهِ- تَفْسِيْرُهَا سَائِغاً، أَوْ حَتماً، لأَوْشَكَ أَنْ يَكُوْنَ اهْتِمَامُهُم بِذَلِكَ فَوْقَ اهْتِمَامِهِم بِأَحَادِيْثِ الفُرُوْعِ وَالآدَابِ، فَلَمَّا لَمْ يَتعَرَّضُوا لَهَا بِتَأْوِيلٍ وَأَقَرُّوهَا عَلَى مَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ، عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الحَقُّ الَّذِي لاَ حَيْدَةَ عنه.
وقال في "السير" "7/ 209":
كَانَتِ الأَهوَاءُ وَالبِدَعُ خَامِلَةً فِي زَمَنِ اللَّيْثِ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالسُّنَنُ ظَاهِرَةٌ عَزِيْزَةٌ، فَأَمَّا فِي زَمَنِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، فَظَهَرَتِ البِدعَةُ، وَامْتُحِنَ أَئِمَّةُ الأَثَرِ وَرَفَعَ أَهْلُ الأَهوَاءِ رءوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلاء إِلَى مُجَادَلَتِهِم بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فكان الجِدَالَ، وَاشتَدَّ النِزَاعُ، وَتَوَلَّدَتِ الشُّبَهُ، نَسْأَلُ اللهَ العافية.
هذه هي عقيدة شيخ الإسلام العلامة الحافظ الذهبي -رحمه الله- في صفات الله -عز وجل، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة التي كان عليها سلف الأمة الصحابة- رضي الله عنهم- ومن تابعهم خير القرون. وها هو يرد على من قال أن الإيمان مخلوق والقرآن مخلوق، يرد على هذه الأقوال المنحرفة بأنصع بيان وأشفى حجة:
قال في "السير" "10/ 215":
وَرد عَليَّ كِتَابٌ مِنْ نَاحِيَة شيرَازَ أَنَّ فضلك الصائغ قَالَ بنَاحِيَتهِم: إِنَّ الإِيْمَان مَخْلُوْق فَبلغنِي أَنَّهُم أخرجوه من البلد بأعوان.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفُضُول، وَالسكوتُ أَوْلَى، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الأَثر أَنَّ الإِيْمَان قَوْلٌ وَعملٌ، وَبلاَ رَيْبٍ أَنَّ أَعْمَالنَا مَخْلُوْقَةٌ، لِقَوْلِهِ -تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَاتُ: 96] ، فصحَّ أَنَّ بَعْض الإِيْمَان مَخْلُوْقٌ.
وَقولُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، فَمِنْ إِيْمَاننَا، فَتَلَفُّظنَا بِهَا أَيْضاً مِنْ أَعْمَالنَا. وَأَمَّا مَاهِيَّةُ الكَلِمَةِ المَلْفُوْظَةِ، فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوْقَةٍ، لأَنَّهَا مِنَ القُرْآن، أعاذنا الله من الفتن والهوى.
وقال "10/ 271-272":
قَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ القَاضِي، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ: أَنَّهُ كَانَ يُورق عَلَى دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ يُسْأَلُ عَنِ القُرَآنِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ: فَغَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ بَيْنَ النَّاسِ فمخلوق.