الجَصَّاصِ إِلَى الغَايَةِ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الأَعْيُنُ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِ مائَةٍ، قَبَضَ عَلَيْهِ المُقْتَدِرُ، وَكُبِسَتْ دَارُهُ، وَأَخَذُوا لَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالجَوهَرِ مَا قُوِّمَ بِأَرْبَعَةَ آلاَفِ أَلفِ دِيْنَارٍ.
وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ فِي "المُنْتَظَمِ": أَخَذُوا مِنْهُ مَا مِقْدَارُهُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِيْنَارٍ عَيناً، وَوَرِقاً، وَخَيْلاً، وَقُمَاشاً، فَقِيْلَ: كَانَ جُلُّ مَالِهِ مِنْ بِنْتِ خُمَارَوَيْه.
وحكَى بَعْضُهُم، قَالَ: دَخَلتُ دَارَ ابْنِ الجَصَّاصِ وَالقَبَّانِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ يُقَبِّنُ سَبَائِكَ الذَّهَبِ.
قَالَ التَّنُوْخِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو الحُسَيْنِ بنُ عَيَّاشٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَمَاعَةً مِنْ ثِقَاتِ الكُتَّابِ يَقُولُوْنَ: إِنَّهُم حَضَرُوا مُصَادَرَةَ ابْنِ الجَصَّاصِ، فَكَانَتْ سِتَّةَ آلاَفِ أَلفِ دِيْنَارٍ، هذا سوى ما أخذ من داره وبعدما بَقِيَ لَهُ.
قَالَ التَّنُوْخِيُّ: لَمَّا صُودِرَ، كَانَ فِي دَارِهِ سَبْعُ مائَةِ مُزَمَّلَةِ خَيْزُرَانَ.
وَيُحَكَى عَنْهُ بَلَهٌ وَتَغْفِيلٌ، مَرَّ بِهِ صَدِيْقٌ، فَقَالَ له: كيف أنت؟ فقال ابْنُ الجَصَّاصِ: الدُّنْيَا كُلُّهَا مَحمُوْمَةٌ. وَكَانَ قَدْ حُمَّ.
وَنَظَرَ مَرَّةً فِي المِرآةِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: تَرَى لِحْيَتِي طَالَتْ؟ فَقَالَ: المِرْآةُ فِي يَدِكَ. قَالَ: الشَّاهِدُ يَرَى مَا لاَ يَرَى الغَائِبُ.
وَدَخَلَ يَوْماً عَلَى الوَزِيْرِ ابْنِ الفُرَاتِ، فَقَالَ: عِنْدَنَا كِلاَبٌ يَحرِمُوننَا نَنَامَ. فَقَالَ الوَزِيْرُ: لَعَلَّهُم جِرَاءٌ؟ قَالَ: بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ فِي قَدِّي وَقَدِّكَ.
وَدَعَا، فَقَالَ: حَسْبِي اللهُ وَأَنبيَاؤُه وَمَلاَئِكتُه، اللَّهُمَّ أَعِدْ مِنْ بَرَكَةِ دُعَائِنَا عَلَى أَهْلِ القُصُورِ فِي قُصُورِهِم، وَعَلَى أَهْلِ الكنَائِسِ فِي كنَائِسِهِم.
وَفَرَغَ مِنَ الأَكْلِ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يُحلَفُ بِأَعظَمَ مِنْهُ.
وَكَانَ مَعَ الخَاقَانِيِّ فِي مَرْكِبٍ وَبِيَدِهِ كُرَةُ كَافُوْرٍ، فَبَصَقَ فِي وَجْهِ الوَزِيْرِ، وَأَلْقَى الكَافُوْرَةَ فِي دِجْلَةَ، ثُمَّ أَفَاقَ وَاعْتَذَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدتُ أَنْ أَبْصُقَ فِي وَجْهِكَ وَأُلْقِيَهَا فِي المَاءِ، فَغَلِطْتُ فَقَالَ: كَانَ كَذَلِكَ يَا جَاهِلُ.
قَالَ التَّنُوْخِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بنُ وَرْقَاءَ الأَمِيْرُ، قَالَ: اجتَزتُ بِابْنِ الجَصَّاصِ وَكَانَ مُصَاهرِي، فَرَأَيْتُهُ عَلَى حُوْشِ دَارِهِ حَافِياً حَاسِراً، يَعْدُو كَالمَجْنُوْنِ، فَلَمَّا رَآنِي، استحيى، فقلت: مالك؟ قَالَ: يَحُقُّ لِي، أَخَذُوا مِنِّي أَمراً عَظِيْماً. فَسَلَّمْتُهُ، وَقُلْتُ: مَا بَقِيَ يَكْفِي، وَإِنَّمَا يَقْلَقُ هَذَا القَلَقَ مَنْ يَخَافُ الحَاجَةَ، فَاصْبِرْ حَتَّى أُبيِّنَ لَكَ غِنَاكَ. قَالَ: هَاتِ. قُلْتُ: أَلَيْسَ دَارُكَ هَذِهِ بِآلَتِهَا وَفُرُشِهَا لَكَ؟ وَعَِقَارُكَ بِالكَرْخِ وَضِيَاعُكَ؟ قَالَ: بَلَى. فَمَا زِلْتُ أُحَاسِبُه حَتَّى