فَقَالَ: اصْعَدُوا, فَإِنَّ اللَّبْوَةَ وَالأَسَدَ يَأْوِيَانِ حَوْلَ الدَّيْرِ. فَفَعَلُوا وَأَبَى سَعِيْدٌ أَنْ يَدْخُلَ، فَقَالُوا: مَا نَرَاكَ إلَّا وَأَنْتَ تُرِيْدُ الهَرَبَ مِنَّا. قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ لاَ أَدْخُلُ مَنْزِلَ مُشْرِكٍ أَبَداً. قَالُوا: فَإِنَّا لاَ نَدَعُكَ، فَإِنَّ السِّبَاعَ تَقْتُلُكَ. قَالَ لاَ ضَيْرَ, إِنَّ مَعِيَ رَبِّي يَصْرِفُهَا عَنِّي، وَيَجْعَلُهَا حَرَساً تَحْرُسُنِي. قَالُوا: فَأَنْتَ من لأنبياء؟ قَالَ: مَا أَنَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ عَبْدٌ مِنْ عَبِيْدِ اللهِ مُذْنِبٌ. قَالَ الرَّاهِبُ: فَلْيُعْطِنِي مَا أَثِقُ بِهِ عَلَى طُمَأْنِيْنَةٍ. فَعَرَضُوا عَلَى سَعِيْدٍ أَنْ يُعْطِيَ الرَّاهِبَ مَا يُرِيْدُ قَالَ: إِنِّي أُعْطِي العَظِيْمَ الَّذِي لاَ شَرِيْكَ لَهُ، لاَ أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى أُصْبِحَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- فَرَضِيَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ, فَقَالَ لَهُم: اصْعَدُوا, وَأَوْتِرُوا القِسِّيَّ, لِتُنَفِّرُوا السِّبَاعَ عَنْ هَذَا العَبْدِ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ كَرِهَ الدُّخُوْلَ فِي الصَّوْمَعَةِ لِمَكَانِكُمْ. فَلَمَّا صَعِدُوا, وَأَوْتَرُوا القِسِّيَّ، إِذَا هُمْ بِلَبْوَةٍ قَدْ أَقْبَلَتْ, فَلَمَّا دَنَتْ مِنْ سَعِيْدٍ, تَحَكَّكَتْ بِهِ, وَتَمَسَّحَتْ بِهِ ثُمَّ رَبَضَتْ قَرِيْباً مِنْهُ وَأَقْبَلَ الأَسَدُ يَصْنَعُ كَذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى الرَّاهِبُ ذَلِكَ, وَأَصْبَحُوا, نَزَلَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَرَائِعِ دِيْنِهِ، وَسُنَنِ رَسُوْلِهِ، فَفَسَّرَ لَهُ سَعِيْدٌ ذَلِكَ كُلَّهُ, فَأَسْلَمَ, وَأَقْبَلَ القَوْمُ عَلَى سَعِيْدٍ يَعْتَذِرُوْنَ إِلَيْهِ، وَيُقَبِّلُوْنَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ, وَيَأْخُذُوْنَ التُّرَابَ الَّذِي وَطِئَهُ، فَيَقُوْلُوْنَ: يَا سَعِيْدُ حَلَّفَنَا الحَجَّاجُ بِالطَّلاَقِ، وَالعَتَاقِ، إِنْ نَحْنُ رَأَيْنَاكَ لاَ نَدَعُكَ حَتَّى نُشْخِصَكَ إِلَيْهِ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ. قَالَ: امْضُوا لأَمْرِكُم, فَإِنِّي لاَئِذٌ بِخَالِقِي, وَلاَ رَادَّ لِقَضَائِهِ. فسارو حَتَّى بَلَغُوا وَاسِطَ, فَقَالَ سَعِيْدٌ: قَدْ تَحَرَّمْتُ بِكُم وَصَحِبْتُكُم, وَلَسْتُ أَشُكُّ أَنَّ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ, فَدَعُوْنِي اللَّيْلَةَ آخُذْ أُهْبَةَ المَوْتِ, وَأَسْتَعِدَّ لِمُنْكَرٍ وَنَكِيْرٍ, وَأَذْكُرْ عَذَابَ القَبْرِ, فَإِذَا أَصْبَحْتُم, فَالمِيْعَادُ بَيْنَنَا المَكَانُ الَّذِي تُرِيْدُوْنَ. فَقَالَ بَعْضُهُم: لاَ تُرِيْدُوْنَ أَثَراً بَعْد عَيْنٍ. وَقَالَ بَعْضُهُم: قَدْ بَلَغْتُم أَمْنَكُم, وَاسْتَوْجَبْتُم جَوَائِزَ الأَمِيْرِ, فَلاَ تَعْجَزُوا عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُم: يُعْطِيْكُم، مَا أَعْطَى الرَّاهِبَ, وَيْلَكُم!

أَمَا لَكُم عِبْرَةٌ بِالأَسَدِ، وَنَظَرُوا إِلَى سَعِيْدٍ قَدْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ, وَشَعِثَ رَأْسُهُ، وَاغْبَرَّ لَوْنُهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يَضْحَكْ، مُنْذُ يَوْمِ لَقُوْهُ وَصَحِبُوْهُ فَقَالُوا: يَا خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ لَيْتَنَا لَمْ نَعْرِفْكَ, وَلَمْ نُسَرَّحْ إِلَيْكَ, الوَيْلُ لَنَا وَيْلاً طَوِيْلاً, كَيْفَ ابْتُلِيْنَا بِكَ اعْذُرْنَا عِنْدَ خَالِقِنَا يَوْمَ الحَشْرِ الأَكْبَرِ, فَإِنَّهُ القَاضِي الأَكْبَرُ, وَالعَدْلُ الَّذِي لاَ يَجُوْرُ. قَالَ: مَا أَعْذَرَنِي لَكُم وَأَرْضَانِي لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللهِ فِيَّ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ البُكَاءِ وَالمُجَاوَبَةِ قَالَ كَفِيْلُهُ: أَسْأَلُكَ بِاللهِ لَمَا زَوَّدْتَنَا مِنْ دُعَائِكَ وَكَلاَمِكَ فَإِنَّا لَنْ نَلْقَى مِثْلَكَ أَبَداً فَفَعَلَ ذَلِكَ فَخَلَّوْا سَبِيْلَهُ فَغَسَلَ رَأْسَهُ وَمِدْرَعَتَهُ وَكِسَاءهُ, وَهُم مُحْتَفُوْنَ اللَّيْلَ كُلَّهُ, يُنَادُوْنَ بِالوَيْلِ وَاللَّهْفِ. فَلَمَّا انْشَقَّ عَمُوْدُ الصُّبْحِ, جَاءهُم سَعِيْدٌ فَقَرَعَ البَابَ, فَنَزَلُوا وَبَكَوْا مَعَهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى الحَجَّاجِ, وَآخَرَ مَعَهُ, فَدَخَلاَ, فَقَالَ الحَجَّاجُ: أَتَيْتُمُوْنِي بِسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ, وَعَايَنَّا مِنَّا العَجَبَ. فَصَرَفَ بِوَجْهِهِ عَنْهُم, فَقَالَ: أَدْخِلُوْهُ عَلَيَّ. فَخَرَجَ المُتَلَمِّسُ, فَقَالَ لِسَعِيْدٍ: أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ. قَالَ: أَنْتَ شَقِيُّ بنُ كُسَيْرٍ. قَالَ: بل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015