يَا رَوْحُ كَمْ مِنْ كَرِيْمٍ قَدْ نَزَلْتُ به ... قد ظن مِنْ لَخْمٍ وَغَسَّانِ؟
حَتَّى إِذَا خِفْتُهُ زَايَلْتُ مَنْزِلَهُ ... مِنْ بَعْدِ مَا قِيْلَ عِمْرَانُ بنُ حِطَّانِ
قَدْ كنْتُ ضَيْفَكَ حَوْلاً مَا تُرَوِّعُنِي ... فِيْهِ طَوَارِقُ مِنْ إِنْسٍ وَلاَ جَانِ
حَتَّى أَرَدْتَ بِيَ العُظْمَى فَأَوْحَشَنِي ... مَا يُوْحِشُ النَّاسَ مِنْ خَوْفِ ابْنِ مَرْوَانِ
لَوْ كُنْتُ مُسْتَغْفِراً يَوْماً لِطَاغِيَةٍ ... كُنْتَ المُقَدَّمَ فِي سِرٍّ وَإِعْلاَنِ
لَكِنْ أَبَتْ لِي آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ ... عَقْدَ الوِلاَيَةِ فِي "طه" وَ"عِمْرَانِ"
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي مَصْرَعِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلاَّ لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانَا
إِنِّي لأَذْكُرُهُ حِيْناً فأحسبه ... أو فى البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مِيْزَانَا
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُوْنُ الطِّيْرِ قَبْرُهُمُ ... لَمْ يَخْلِطُوا دِيْنَهُم بَغْياً وَعُدْوَانَا
فَبَلَغَ شِعْرُهُ عَبْدَ المَلِكِ بنَ مَرْوَانَ, فَأَدْرَكَتْهُ حمية لقرابته من علي -رضي اللهُ عَنْهُ- فَنَذَرَ دَمَهُ وَوَضَعَ عَلَيْهِ العُيُوْنَ. فَلَمْ تَحْمِلْهُ أَرْضٌ فَاسْتَجَارَ بِرَوْحِ بنِ زِنْبَاعٍ, فَأَقَامَ فِي ضِيَافَتِهِ, فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنَ الأَزْدِ. فَبَقِي عِنْدَهُ سَنَةً فَأَعْجَبَهُ, إِعْجَاباً شَدِيْداً فَسَمَرَ رَوْحٌ لَيْلَةً عِنْدَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ فَتَذَاكَرَا شِعْرَ عِمْرَانَ هَذَا. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَوْحٌ, تَحَدَّثَ مَعَ عِمْرَانَ بِمَا جَرَى, فَأَنْشَدَهُ بَقِيَّةَ القَصِيْدِ فَلَمَّا عَادَ إِلَى عَبْدِ المَلِكِ قَالَ: إِنَّ فِي ضِيَافَتِي رَجُلاً مَا سَمِعْتُ مِنْهُ حَدِيْثاً قَطُّ إلَّا وَحَدَّثَنِي بِهِ وَبِأَحْسَنَ مِنْهُ, وَلَقَدْ أَنْشَدَنِي تِلْكَ القَصِيْدَةَ كُلَّهَا. قَالَ: صِفْهُ لِي فَوَصَفَهُ لَهُ قَالَ: إِنَّكَ لَتَصِفُ عِمْرَانَ بنَ حِطَّانَ, اعْرِضْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقَانِي قَالَ: فَهَرَبَ إِلَى الجَزِيْرَةِ ثُمَّ لَحِقَ بِعُمَانَ فَأَكْرَمُوْهُ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَقِيَنِي عِمْرَانُ بنُ حِطَّانَ, فَقَالَ: يَا أَعْمَى احْفَظْ عَنِيِّ هَذِهِ الأَبْيَاتَ:
حَتَّى مَتَى تُسْقَى النُّفُوْسُ بِكَأْسِهَا ... رَيْبَ المَنُوْنِ وَأَنْتَ لاَهٍ تَرْتَعُ؟
أَفَقَدْ رَضِيْتَ بِأَنْ تُعَلَّلَ بِالمُنَى ... وَإِلَى المَنِيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ تُدْفَعُ؟
أَحْلاَمُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيْبَ بِمِثْلِهَا لاَ يُخْدَعُ
فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِباً ... وَاجْمَعْ لِنَفْسِكَ لاَ لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ
وَبَلَغَنَا أَنَّ الثَّوْرِيَّ كَانَ كَثِيْراً مَا يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِ عِمْرَانَ هَذِهِ
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لاَ يَسْأَمُوْنَهَا ... عَلَى أَنَّهُمْ فِيْهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ فَإِنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيْلٍ تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِم وَتَرَحَّلُوا ... طَرِيْقُهُمُ بَادِي العَلاَمَةِ مَهْيَعُ
قَالَ عَبْدُ البَاقِي بنُ قَانِعٍ الحَافِظُ: تُوُفِّيَ عمران بن حطان سنة أربع وثمانين.